شهد سوق الإيجارات السكنية في مصر تحولات دراماتيكية خلال العامين الماضيين حيث ارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق مع تدفق أكثر من مليون سوداني فارين من الحرب الأهلية في السودان منذ ربيع عام ألفين وثلاثة وعشرين ثم انهارت فجأة مع بدء عودة عشرات الآلاف منهم إلى بلادهم في عام ألفين وخمسة وعشرين. هذا التقلب الحاد كشف هشاشة السياسات الحكومية المصرية في إدارة ملف الإسكان وأعاد تسليط الضوء على الأزمات الهيكلية التي يعاني منها القطاع العقاري وسط غياب حلول فعالة تحمي المواطن من تقلبات السوق.
سوق الإيجارات في مصر من الازدهار المصطنع إلى الانهيار المفاجئ
مع بداية موجة النزوح السوداني شهدت مناطق مثل فيصل والهرم والوراق قفزات هائلة في أسعار الإيجارات وصلت إلى ثلاثة أضعاف حيث ارتفع إيجار الشقة من ألفي جنيه إلى ثمانية آلاف جنيه بل تجاوزت بعض الشقق المفروشة خمسة عشر ألف جنيه شهريا. هذا الارتفاع لم يكن نتيجة نمو اقتصادي أو تحسن في الخدمات بل بسبب ضغط الطلب المفاجئ ما دفع آلاف الأسر المصرية للخروج من السوق أو الانتقال لمناطق أقل تكلفة وعرقل خطط الشباب للزواج أو الاستقلال السكني.
عودة السودانيين تراجع الأسعار وركود السوق
مع تحسن الأوضاع الأمنية في السودان أواخر عام ألفين وأربعة وعشرين بدأت موجة عودة واسعة للاجئين السودانيين حيث غادر أكثر من مئة وخمسة وخمسين ألفا خلال أشهر قليلة ما أدى إلى تحرير عدد كبير من الوحدات السكنية وعودة التوازن النسبي بين العرض والطلب. النتيجة كانت تراجعا حادا في أسعار الإيجارات بنسبة وصلت إلى خمسين في المئة في بعض المناطق حيث انخفضت الإيجارات من ثمانية آلاف إلى ألفي جنيه وعجز بعض الملاك عن إيجاد مستأجرين حتى بعد التخفيض.
خلفيات الأزمة إخفاق حكومي وتقصير في الرقابة
رغم وضوح مؤشرات الأزمة منذ بدايتها وقفت الحكومة المصرية موقف المتفرج دون تدخل فعال لضبط السوق أو حماية المواطنين من المضاربة وارتفاع الأسعار غير المبرر. لم تضع الحكومة سياسات استباقية لإدارة تدفقات اللاجئين أو تنظيم سوق الإيجارات بل اكتفت بإجراءات شكلية كقوانين الإيجار القديم التي لم تعالج جوهر المشكلة.
الخبراء العقاريون يؤكدون أن أزمة الإيجارات ليست وليدة هجرة السودانيين فقط بل نتاج تراكمات اقتصادية أعمق أبرزها تحرير سعر الصرف وارتفاع أسعار مواد البناء وتراجع المعروض من الوحدات السكنية مقابل الطلب المتزايد في ظل غياب سياسات إسكانية عادلة ومستدامة. فالعرض السنوي من العقارات أقل بكثير من احتياجات السوق حيث تحتاج مصر إلى نصف مليون وحدة سنويا بينما لا يتجاوز المعروض ثلاثمئة وأربعين ألف وحدة.
تأثيرات اقتصادية واجتماعية واسعة
لم تقتصر تداعيات الأزمة على ارتفاع أو انخفاض الأسعار فقط بل امتدت لتشمل آثارا اجتماعية واقتصادية خطيرة. فقد أدى ارتفاع الإيجارات إلى تعطيل خطط الزواج لدى آلاف الشباب وزيادة الهجرة الداخلية من الأقاليم إلى العاصمة بحثا عن فرص أفضل بينما استفاد بعض المستثمرين العقاريين من الطفرة المؤقتة على حساب المواطنين محدودي الدخل.
ومع تراجع الطلب برحيل السودانيين أصيب السوق العقاري بحالة من الشلل حيث اختفى المستأجرون فجأة وعجز الملاك عن تأجير وحداتهم ما كشف هشاشة النموذج الاقتصادي المعتمد على المضاربة والفرص العابرة.
الحكومة في مرمى النقد غياب الرؤية وتجاهل الأزمات
رغم التحذيرات المتكررة من خبراء الاقتصاد والعقار لم تتخذ الحكومة أي إجراءات فعالة لضبط السوق أو حماية المواطنين من تقلبات الإيجارات. غابت الرقابة على أسعار الإيجارات ولم يتم وضع خطط لإدارة الأزمات السكانية الطارئة أو زيادة المعروض من الإسكان الاجتماعي بل اكتفت الحكومة بتصريحات إعلامية ووعود لم تتحقق على أرض الواقع.
حتى مع تراجع الأسعار لم تظهر أي مبادرات رسمية لدعم الأسر المتضررة أو تقديم حلول عملية لأزمة الإسكان ما جعل المواطن المصري هو الضحية الأولى والأخيرة لسياسات حكومية مرتجلة وعاجزة عن مواكبة التغيرات.
خلاصة أزمة الإيجارات في مصر جرس إنذار للحكومة
ما حدث في سوق الإيجارات المصري خلال العامين الماضيين هو درس قاس للحكومة يكشف أن الاعتماد على العوامل الخارجية والمضاربة السريعة لا يصنع استقرارا اقتصاديا أو اجتماعيا. المطلوب اليوم ليس فقط إصلاح قوانين الإيجار بل وضع استراتيجية وطنية شاملة للإسكان وزيادة المعروض من الوحدات السكنية وتفعيل الرقابة على السوق ووضع خطط لإدارة الأزمات السكانية الطارئة حتى لا تتكرر الكارثة مع أي موجة هجرة جديدة أو تقلب اقتصادي مفاجئ











