تشكل اللقاءات الرئاسية بين الولايات المتحدة وسوريا نقاط تحول استراتيجية حاسمة في مسار العلاقات الأمريكية السورية وامتداداتها في الشرق الأوسط.
وفي الوقت الذي اجتمع فيه الرئيس الأمريكي بيل كلينتون بالرئيس السوري حافظ الأسد في جنيف عام 2000 في محاولة لإحياء عملية السلام السوري الإسرائيلي، جاء لقاء ترامب مع أحمد الشرع في الرياض 2025 وسط أجندة جديدة ترتكز على رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، ومكافحة الإرهاب، وتقليص النفوذ الإيراني في سوريا.

تعكس هذه المقارنة بين اللقاءين تباين الأولويات الاستراتيجية في السياسات الأمريكية، من السلام الإقليمي في عهد كلينتون، إلى المصالح الأمنية والاقتصادية المباشرة في عهد ترامب.
كما تسلط الضوء على التحول الجذري في القيادة السياسية السورية من حافظ الأسد إلى الرئيس أحمد الشرع، وما يعنيه ذلك من تغير في التوازنات الإقليمية والتحالفات الدولية، خصوصًا في ظل الدور السعودي الجديد، وتراجع النفوذ الروسي والإيراني في سوريا.
السياق التاريخي للقاءات: من السلام إلى إعادة الإعمار
لقاء جنيف 2000: آخر محاولات السلام السوري-الإسرائيلي اجتمع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون مع نظيره السوري حافظ الأسد في جنيف يوم 26 مارس 2000، في محاولة لإحياء المفاوضات المتعثرة بين سوريا وإسرائيل.
جاء اللقاء في ظل ظروف صحية حرجة للأسد، الذي توفي بعد ثلاثة أشهر، وضغوط زمنية على كلينتون الذي كان في نهاية فترته الرئاسية.
ركزت المحادثات على نزاع مرتفعات الجولان وحقوق المياه في بحيرة طبريا، حيث طالبت سوريا بالانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى حدود 4 يونيو 1967، بينما اشترطت إسرائيل ضمانات أمنية وترتيبات مشتركة لإدارة الموارد المائية. فشل اللقاء في تحقيق اختراق بسبب تصلب الموقف السوري، ما أدى إلى تجميد المفاوضات حتى وفاة الأسد.
لقاء الرياض 2025: من العقوبات إلى إعادة الإعمار في مايو 2025، التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، في أول لقاء رئاسي منذ ربع قرن.
جاء اللقاء بعد قرار أمريكي مفاجئ برفع العقوبات عن سوريا، في إطار استراتيجية جديدة تركز على مكافحة الإرهاب وتقليص النفوذ الإيراني.
تمحورت المطالب الأمريكية حول خمس نقاط أساسية: ترحيل المقاتلين الأجانب، إدارة مراكز احتجاز “داعش”، تقليص الوجود الإيراني، مكافحة المخدرات، وتسهيل عودة اللاجئين. يمثل هذا التحول انزياحاً من أجندة السلام الإقليمي إلى أولويات أمنية واقتصادية مباشرة.
التحول في الأولويات الأمريكية: من الدبلوماسية إلى البراغماتية
أجندة كلينتون: السلام كاستثمار استراتيجي سعت إدارة كلينتون إلى تحقيق سلام شامل بين سوريا وإسرائيل كجزء من رؤية “الشرق الأوسط الجديد” التي تبناها بعد اتفاقيات أوسلو.
كانت المرتفعات الجولان تمثل العقبة الرئيسية، حيث أصر الأسد على استعادة كامل الأراضي المحتلة، بينما أرادت إسرائيل الاحتفاظ بمناطق استراتيجية مطلة على البحيرة.
حاول كلينتون استخدام نفوذه الشخصي وعلاقته الوثيقة برئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك لإقناع الأسد بقبول حل وسط، لكن تصلب الموقف السوري أفشل المساعي الأمريكية.
أجندة ترامب: المصالح المباشرة فوق المشاريع الكبرى اتسمت سياسة ترامب بالبراغماتية الواضحة، حيث ربط رفع العقوبات بتنفيذ مطالب أمنية محددة بدلاً من السعي لحلول شاملة. أولويات الإدارة تركزت على:
- مكافحة الإرهاب: عبر تفكيك البنى المتبقية لتنظيم “داعش” وإدارة ملف المقاتلين الأجانب.
- احتواء إيران: عبر الضغط على دمشق لتقليص النفوذ الإيراني العسكري والاقتصادي.
- المصالح الاقتصادية: فتح أسواق إعادة الإعمار أمام الشركات الأمريكية، خاصة في قطاعي الطاقة والبنية التحتية.
- التطبيع الإقليمي: تشجيع سوريا على الانضمام لاتفاقات إبراهيم مع إسرائيل، مستفيدة من النموذج الإماراتي-الإسرائيلي.
تحول الشخصيات القيادية: من الأب المؤسس إلى الزعيم المتحول
حافظ الأسد: مهندس سوريا الحديثة مثّل الأسد (1971-2000) نموذج الزعيم السلطوي ذي الخلفية العسكرية، الذي حكم عبر تحالفات داخلية معتمدة على الأجهزة الأمنية والطائفية.
تميزت سياسته بالحذر الشديد والالتزام بمبادئ “الممانعة” ورفض التطبيع مع إسرائيل دون استعادة كامل الحقوق. كانت علاقته بالغرب متوترة، لكنه حافظ على قنوات اتصال استراتيجية، خاصة خلال حرب الخليج الثانية 1991.
أحمد الشرع: من الجهاد إلى القصر الجمهوري يمثل الشرع تحولاً جذرياً في النخبة الحاكمة السورية. كقائد سابق في تنظيم القاعدة (تحت اسم أبو محمد الجولاني)، قاد تحالفاً عسكرياً أطاح بنظام الأسد الابن في 2024.
تحوله إلى زعيم سياسي قابلته واشنطن يعكس مرونة في السياسة الأمريكية تجاه الشخصيات المثيرة للجدل، شريطة التوافق مع المصالح الأمنية. يتميز خطابه بالتركيز على “الثورة السورية” وإعادة الإعمار، محاولاً تجميل صورة نظامه عبر مشاريع اقتصادية مدعومة خليجياً.
التحالفات الإقليمية: من الأحادية إلى التعددية القطبية
الدور السعودي: من الهامش إلى مركز الصدارة في لقاء 2000، كانت السعودية تلعب دوراً ثانوياً في الملف السوري، بينما برزت كطرف رئيسي في لقاء 2025. قاد ولي العهد محمد بن سلمان جهود الوساطة، معززاً مكانة المملكة كفاعل جيوسياسي مستقل.
تعهدت الرياض باستثمار 7 مليارات دولار في قطاع الطاقة السوري، في محاولة لخلق توازن ضد النفوذ الإيراني.
تركيا: من الخصم إلى الشريك النسبي على عكس العداء التركي-السوري خلال الحرب الأهلية، أظهر إردوغان مرونة في التفاعل مع النظام الجديد. شارك هاتفياً في لقاء الرياض، في إشارة لاستعداد أنقرة لإعادة تعريف مصالحها في شمال سوريا، خاصة فيما يتعلق بالوجود الكردي.
إيران وروسيا: تحدي الهيمنة شكل التراجع النسبي للدور الروسي-الإيراني في سوريا عاملاً محورياً لانفتاح واشنطن على دمشق.
رصدت أقمار اصطناعية انسحاباً جزئياً للميليشيات الإيرانية من غرب الفرات، بينما تبدو موسكو منشغلة بأوكرانيا، مما خلق فراغاً استغلته الولايات المتحدة.
تحديات التنفيذ ومخاطر الانتكاسة
إشكالية المطالب الأمريكية تواجه المطالب الخمسة لواشنطن تحديات جمة:
- ترحيل المقاتلين: تعنت الدول الأوروبية في استعادة مواطنيها، مع وجود نحو 10 آلاف معتقل.
- الوجود الإيراني: اعتماد دمشق على طهران عسكرياً واقتصادياً يجعل التخلي عنها صعباً.
- إعادة الإعمار: تحتاج سوريا 400 مليار دولار لإعادة البناء، وهي أموال غير متوفرة دون استثمارات خليجية ضخمة.
المخاوف الإسرائيلية تعارض إسرائيل رفع العقوبات، خوفاً من تعزيز النظام السوري عسكرياً. زادت الضربات الجوية على مواقع إيرانية في سوريا بنسبة 40% منذ بدء التقارب الأمريكي-السوري.
إشكالية الشرعية الدولية تواجه حكومة الشرع اتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان، حيث سجلت منظمات دولية 1200 حالة إعدام خارج نطاق القضاء منذ توليه السلطة. يهدد هذا بوضع عقبات أمام الدعم الدولي لإعادة الإعمار.
الخاتمة: نحو نظام إقليمي جديد؟ يعكس التقارب الأمريكي-السوري الجديد تحولاً جوهرياً في موازين القوى الإقليمية، حيث تتنازع القوى الكبرى والصاعدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. إذا نجحت واشنطن في تحويل مطالبها إلى سياسات فعلية، فقد تشهد المنطقة:
- تطبيع سوري-إسرائيلي جزئي، على غرار النموذج الإماراتي.
- تقليص النفوذ الإيراني عبر اتفاقيات أمنية مشتركة.
- طفرة استثمارية خليجية في قطاعات الطاقة والبنية التحتية.
لكن نجاح هذه الرؤية مرهون بقدرة الأطراف على تجاوز إرث الثقة المفقودة، وإيجاد حلول عملية للتحديات الأمنية والاقتصادية المترابطة.
بينما يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن لسوريا أن تتحول من ساحة حروب بالوكالة إلى نموذج للاستقرار في شرق أوسط جديد؟










