أثارت الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إلى دول الخليج موجة من السخرية والانتقادات في الإعلام الأمريكي، حيث سلطت الضوء على التناقض بين البذخ في الاستقبالات والخطاب السياسي لترمب.
من السعودية التي استقبلته بموكب خيول عربية، إلى قطر التي أضافت الجمال والرقص بالسيوف، وصولًا إلى الإمارات التي قدمت عرضًا لتحريك الشعر أشبه بإعلان شامبو، أصبحت هذه الاستقبالات موضوعًا للتندر والنقد، مما يكشف عن توترات ثقافية وسياسية عميقة.
الخلفية السياسية للزيارة:
جاءت زيارة ترمب إلى السعودية وقطر والإمارات في إطار جهود إحياء التحالفات الاستراتيجية، حيث أُعلن عن صفقات استثمارية ضخمة تجاوزت 3 تريليونات دولار، وفقًا للبيانات الرسمية.
شملت الاتفاقيات صفقة أسلحة مع السعودية بقيمة 142 مليار دولار، واستثمارات في البنية التحتية للطاقة بالتعاون مع قطر، ومشاريع تكنولوجية مشتركة مع الإمارات. هذه الصفقات، رغم ضخامتها، أثارت تساؤلات حول جدواها الفعلية، خاصة في ظل غياب آليات تنفيذ واضحة.
السياق التاريخي للعلاقات الأمريكية-الخليجية
تمثل الزيارة استمرارًا لنهج ترمب في تعزيز العلاقات مع الأنظمة الملكية بالخليج، والذي بدأ خلال فترته الرئاسية الأولى (2017-2021).
يُلاحظ أن ترمب تجنب زيارة دول مثل مصر أو الأردن، مركزًا على الشركاء القادرين على ضخ استثمارات مباشرة في الاقتصاد الأمريكي. هذا النهج يعكس تحولًا في الاستراتيجية الأمريكية من التركيز على القضايا الإقليمية مثل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى أولويات اقتصادية صرفة.
بين التراث الثقافي والترفيه السياسي
السعودية: الخيول العربية و”ماكدونالدز المتنقل”
استُقبل ترمب في الرياض بموكب فخم ضم 50 فارسًا على خيول عربية بيضاء، حاملين الأعلام الأمريكية والسعودية، في مشهد استوحى الرمزية التاريخية للتراث البدوي.
لكن المفارقة الأبرز كانت في توفير شاحنة “ماكدونالدز” متنقلة داخل القصر الملكي لتلبية رغبات ترمب الغذائية، وهو ما علق عليه الإعلام الأمريكي بسخرية: “الطريق إلى قلب ترمب يمر عبر معدته”.
قطر: الجمال والسيوف و”الرشوة المسبقة”
في الدوحة، ارتفع سقف الاستقبال ليضم موكبًا من الجمال إلى جانب الخيول، وعرضًا للرقص بالسيوف التقليدية. لكن الحدث الأكثر إثارة للجدل كان عرض قطر طائرة “بوينج 747” فاخرة بقيمة 400 مليون دولار كهدية لترمب، والتي وصفها الإعلام بأنها “رشوة مسبقة” قبل طلب خدمات سياسية. السخرية بلغت ذروتها في تغطية “ذا ديلي شو”، حيث وُصف الموكب بأنه “مزيج بين فيلم أكشن ومسلسل خيالي”.
الإمارات: أداء الشعر وتحويل التراث إلى مادة دعائية
في أبوظبي، قدمت مجموعة من الفنانات عرض “العيالة” التقليدي، الذي تضمن تحريك الشعر الطويل بشكل متزامن مع الإيقاعات الموسيقية.
هذا المشهد، الذي نُشر على نطاق واسع عبر وسائل التواصل، أثار تفاعلًا ساخرًا، حيث شبهه المستخدمون بـ”إعلان شامبو”. صحيفة “واشنطن بوست” علقت: “لو كان الهدف إبهار ترمب بجمال الشعر، فقد نجحوا بامتياز”.
ردود الفعل الإعلامية: بين السخرية والانتقاد الجاد
البرامج الساخرة: تفكيك رمزية الاستعراض
احتلت الاستقبالات مساحة كبيرة في البرامج الليلية الأمريكية.
في “ساترداي نايت لايف”، جُسد ترمب (بواسطة جيمس أوستن جونسون) وهو يصرح: “لم آتِ من أجل الشعب الأمريكي، بل من أجل ثروتي الشخصية”. أما “ذا ديلي شو”، فقد سلط الضوء على التناقض بين الترف الخليجي ومعاناة المدن الأمريكية، مع تعليق: “بينما يُنفق المليارات على استقبال ترمب، تتداعى الجسور في بيتسبرغ”.
الصحف الرئيسية: تحليل التوتر الثقافي
انتقدت “نيويورك تايمز” الاستقبالات باعتبارها “مسرحية لتضخيم الأنا”، مشيرة إلى أن ترمب قبل الدور بسهولة. من ناحية أخرى، رأت “وول ستريت جورنال” أن الاستثمارات المعلنة تخدم مصالح الشركات الأمريكية أكثر من المصلحة الوطنية. لكن التعليق الأكثر حدة جاء من صحيفة “ذي أتلانتيك”، التي وصفت الزيارة بأنها “انتصار للاستبداد المطعم بالذهب”.
التحليل السياسي والاجتماعي: ما وراء الاستعراض
الاستراتيجية الخليجية: شراء النفوذ عبر الترف
تشير تحليلات “غلوبال ستيت أناليتكس” إلى أن دول الخليج تعتمد على “دبلوماسية الترف” لتعزيز نفوذها في واشنطن، مستفيدة من ميل ترمب للرمزيات المادية. هذا النهج يتجلى في منح الهدايا الباهظة، مثل الطائرة القطرية، والتي تُعد استثمارًا في علاقات شخصية أكثر منها سياسات دولة.
التفاعل الأمريكي: بين الرفض والقبول
رغم السخرية الإعلامية، تُظهر استطلاعات الرأي انقسامًا في الرأي العام الأمريكي: 48% يرون الاستقبالات “مهينة”، بينما 32% يعتبرونها “دليلًا على الاحترام الدولي للولايات المتحدة”. هذا الانقسام يعكس التباين في تصورات القوة الناعمة الأمريكية، بين من يرونها في القيم الديمقراطية، وآخرون في الهيبة المادية.
التداعيات الإقليمية: إعادة تشكيل التحالفات
أدت الزيارة إلى تعزيز تحالف “ناتو عربي” غير الرسمي بقيادة السعودية، والذي يهدف لمواجهة النفوذ الإيراني. لكن الخبراء يحذرون من أن الاعتماد المفرط على العلاقات الشخصية مع ترمب قد يعرض الاستقرار الإقليمي للخطر عند تغير القيادة الأمريكية.
بين كوميديا السطح وجدية العمق
لا تقتصر دلالات استقبالات الخليج لترمب على السطحية الظاهرة، بل تعكس تحولات عميقة في السياسة الدولية: من صعود “الدبلوماسية الاستعراضية” إلى تزايد اعتماد الأنظمة السلطوية على القوة الناعمة المادية.
بينما يستهزئ الإعلام الأمريكي بالصور الفانتازية، تُطرح أسئلة جوهرية عن مستقبل الديمقراطية في ظل تحالفات مع أنظمة تُتهم بانتهاكات حقوق الإنسان. القصة، في نهايتها، ليست مجرد نكتة سياسية، بل مرآة لعالم تتصارع فيه القيم مع المصالح بلا هوادة.










