بكل سرية وهدوء، تتسلل أصوات التغيير إلى شوارع دمشق وحلب وحمص، حيث تتراكم الأوراق النقدية في جيوب الناس وتغلفها رائحة الماضي الثقيل. في المقاهي القديمة، وبين أزقة الأسواق، يتهامس السوريون عن حلم طال انتظاره: أوراق نقدية جديدة لا تحمل وجوهاً أرهقت الذاكرة، ولا تذكرهم بسنوات القهر والانهيار. إنه زمن التحول، حيث لا تعود العملة مجرد وسيلة تبادل، بل تصبح إعلاناً عن ميلاد وطن جديد، وسلاحاً في معركة استعادة الثقة والكرامة.
وقد أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، أن المصرف تلقى عروضاً من شركات في تسع دول عربية وأجنبية لطباعة عملة سورية جديدة.
خلفية الأزمة النقدية في سوريا
شهدت سوريا خلال العقد الماضي انهياراً اقتصادياً غير مسبوق، حيث فقدت الليرة السورية أكثر من 96% من قيمتها منذ عام 2011، وتفاقمت الأزمة مع العقوبات الدولية والحرب الطويلة التي دمرت البنية التحتية وأضعفت المؤسسات المالية. ارتبطت العملة السورية، خاصة الفئات الورقية الكبيرة، بصور رموز النظام السابق، ما جعلها رمزاً لمرحلة سياسية واقتصادية يسعى السوريون لتجاوزها.
رمزية تغيير العملة: قطيعة مع الماضي وبداية مرحلة جديدة
لم يكن حمل العملة السورية لصور النظام السابق مجرد تفصيل تصميمي، بل أصبح مع الوقت علامة على استمرار إرث سياسي واقتصادي دموي، امتد لأكثر من خمسة عقود. ومع سقوط النظام السابق وفرار رموزه، برز مطلب تغيير العملة كضرورة سياسية واقتصادية، على غرار ما حدث في العراق بعد سقوط صدام حسين أو في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث مثلت إعادة تصميم العملة خطوة رمزية وعملية لبداية عهد جديد.
الخطوات العملية نحو إصدار عملة جديدة
وأوضح حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر حصرية، أن المصرف تلقى عروضاً من شركات في تسع دول عربية وأجنبية لطباعة عملة سورية جديدة، من بينها الولايات المتحدة، بريطانيا، الإمارات، وألمانيا. وأكد أن العروض قيد الدراسة لاختيار الأنسب من حيث الجودة والتكلفة، وأن المشروع يتطلب ظروفاً اقتصادية وفنية ملائمة لضمان نجاحه.
من أبرز ملامح التغيير:
- إزالة صور النظام السابق من العملة الجديدة، خاصة من الفئات الكبيرة المتداولة.
- نقل عملية الطباعة من روسيا إلى الإمارات وألمانيا، مستفيدين من تخفيف العقوبات الأوروبية وفتح قنوات جديدة للتعاون الاقتصادي.
- إدخال تقنيات أمنية حديثة لمكافحة التزوير وتعزيز الثقة بالعملة.
الدوافع الاقتصادية لتغيير العملة
- مكافحة التضخم: تراجع الليرة السورية أمام الدولار أدى إلى ارتفاع التضخم وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين. إصدار عملة جديدة قد يسهم في ضبط الكتلة النقدية وتحسين الاستقرار المالي.
- سحب الكتلة النقدية غير المضبوطة: سيساعد التغيير في سحب الأموال المتداولة خارج النظام المصرفي، ما يحد من الاقتصاد غير الرسمي ويعزز الرقابة المالية.
- رمزية الإصلاح: تغيير العملة يمثل إعلاناً عن بدء مرحلة اقتصادية جديدة بعد التحرير ورفع العقوبات، ويعزز ثقة المستثمرين المحليين والأجانب.
- مكافحة التزوير: العملات الجديدة بتقنيات حديثة تقلل من عمليات التزوير المنتشرة.
التحديات والصعوبات أمام التغيير
- الكلفة العالية: طباعة وتوزيع العملة الجديدة يتطلب احتياطياً نقدياً قوياً (دولار، يورو، ذهب) وكلفة طباعة مرتفعة لكل ورقة نقدية.
- مخاطر فقدان الثقة: إذا لم تُدعَم العملة الجديدة باحتياطي حقيقي، قد تتعرض لانهيار سريع في قيمتها، خاصة مع استمرار التضخم وضعف الإنتاج المحلي.
- تعقيد الإجراءات: يتطلب التغيير تشريعات قانونية، حملات توعية مجتمعية، وبنية مصرفية قوية لضمان سحب القديم وضخ الجديد دون فوضى.
- الانتقال التدريجي: لا بد من خطة دقيقة لسحب العملة القديمة وتوزيع الجديدة، مع تجنب الضغط على المواطنين أو خلق طوابير تبديل طويلة.
إعادة تفعيل نظام “سويفت” ودوره في الانتعاش الاقتصادي
إلى جانب مشروع العملة الجديدة، بدأ مصرف سوريا المركزي العمل على إعادة تفعيل نظام “سويفت” للتحويلات المالية الدولية، بعد سنوات من العزلة بسبب العقوبات. هذا النظام يعتبر شرياناً رئيسياً للاقتصاد العالمي، وعودته ستسهل التجارة الخارجية، تدفق الاستثمارات، وتخفيض كلفة الاستيراد والتصدير، ما ينعكس إيجابياً على الأسواق المحلية والقدرة الشرائية.
آفاق الاستثمار والاندماج المالي الدولي
رفع العقوبات وإعادة دمج سوريا في النظام المالي العالمي يفتح الباب أمام طفرة استثمارية محتملة، ويعيد الثقة بالنظام المصرفي، ما يشجع الشركات والمؤسسات الدولية على استكشاف فرص الاستثمار في سوريا، خاصة في قطاعات إعادة الإعمار والبنية التحتية والطاقة.
خلاصة: تغيير العملة السورية ضرورة وطنية واقتصادية
يمثل تغيير العملة السورية خطوة محورية لإعادة بناء الثقة بالاقتصاد الوطني وطي صفحة الماضي، شرط أن يترافق مع إصلاحات اقتصادية ومصرفية متكاملة، وبيئة سياسية مستقرة. نجاح هذه الخطوة يتوقف على توفر الاحتياطي النقدي، دعم المجتمع الدولي، ووضوح الرؤية الاقتصادية، لتكون العملة الجديدة رمزاً لسوريا المستقبل، لا سوريا النظام السابق.





