شهدت مصر خلال الأيام القليلة الماضية حدثين متناقضين تماماً، يعكسان بوضوح حجم الفجوة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع المصري المعاصر. ففي حين هزّت واقعة سرقة ربع مليار جنيه من فيلا الدكتورة نوال الدجوي بمدينة 6 أكتوبر الرأي العام، أثارت حادثة مصادرة محافظ الدقهلية لأرغفة خبز من سيدة مسنة موجة من الغضب الشعبي.

يكشف هذا التقرير عن تفاصيل الحادثتين وما تعكسانه من تفاوت طبقي صارخ وتباين في تعامل السلطات مع مختلف شرائح المجتمع، في صورة تلخص واقعاً اجتماعياً بات يفصل بين عالمين متوازيين في بلد واحد.
مغارة ماما نوال: قصة سرقة ربع مليار جنيه من خزائن حديدية
تعرضت فيلا الدكتورة نوال الدجوي، رئيس مجلس أمناء جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب (MSA)، لواقعة سرقة هي الأضخم في التاريخ المصري الحديث. فوفقاً للبلاغ المقدم للأجهزة الأمنية، اكتشفت الدجوي تغييراً في الأرقام السرية الخاصة بثلاث خزائن حديدية في فيلتها بمدينة 6 أكتوبر.

وتضمنت المسروقات مبالغ مالية هائلة من عملات مختلفة، شملت 50 مليون جنيه مصري، و3 ملايين دولار أمريكي (ما يعادل نحو 150 مليون جنيه)، و350 ألف جنيه إسترليني (ما يعادل 23 مليون جنيه)، بالإضافة إلى 15 كيلوغراماً من المشغولات الذهبية.
وأثارت التفاصيل المذهلة لهذه السرقة العديد من التساؤلات، إذ أوضحت الدجوي في أقوالها أنها تقيم في منطقة الزمالك الراقية بالقاهرة، بينما تمتلك فيلا في مدينة 6 أكتوبر، حيث كانت تحتفظ بهذه الثروة الهائلة.
وقالت في التحقيقات إن هذه الأموال والمجوهرات كانت جزءاً من ميراث عائلي تم تقسيمه في جلسة عائلية منذ نحو عامين.

غموض السرقة وتضارب التفاصيل
كشفت تحريات الأجهزة الأمنية أن المسكن والخزائن التي كانت تُحفظ فيها الأموال والمجوهرات لا تُظهر أي آثار عنف أو كسر، مما رجح نظرية أن مرتكب الواقعة ليس غريباً عن المكان.
وأشارت الدجوي في أقوالها إلى اشتباهها في أحد أفراد عائلتها، حيث ذكرت التحريات الأولية وجود خلافات عائلية بينها وبين أحد أحفادها تتعلق بميراث العائلة.
وانتقلت قوة أمنية إلى موقع الفيلا وتحفظت على كاميرات المراقبة وشرعت في إجراء تحريات موسعة للتوصل إلى مرتكب الواقعة.
ويقوم فريق البحث الجنائي بقيادة اللواء محمد الشرقاوي، مدير الإدارة العامة للمباحث الجنائية في الجيزة، بمراجعة تحركات كل المترددين على الفيلا في الفترات الأخيرة.

من هي نوال الدجوي؟
الدكتورة نوال الدجوي شخصية بارزة في مجال التعليم الخاص في مصر، وتُعرف إعلامياً بلقب “ماما نوال”. بدأت مسيرتها في التعليم عام 1958 بتأسيس أول مدرسة لغات مصرية خاصة في القاهرة، متحدية منافسة المدارس الأجنبية.
ثم أصبحت رئيسة مجلس أمناء جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب (MSA)، وتم تكريمها من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي في عام 2019 لإسهاماتها في مجال التعليم.
محافظ الدقهلية وسيدة الخبز: قصة إثارت غضب المصريين
في المشهد المقابل تماماً، أثارت واقعة تداول فيديو للواء طارق مرزوق، محافظ الدقهلية، وهو يقوم بمصادرة كميات من الخبز من سيدة مسنة، موجة من الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي.

وتعود تفاصيل الواقعة إلى جولة تفقدية قام بها المحافظ في مدينة أجا، حيث أمر بمصادرة كميات من الخبز كان بحوزة سيدة، بدعوى حصولها على كميات تفوق حصتها التموينية المقررة.
وتباينت الروايات حول الحادثة، ففي حين أشارت بعض التقارير إلى أن المحافظ اقتحم منزل السيدة لمصادرة الخبز، نفى المحافظ ذلك في تصريحات لاحقة، مؤكداً أنه كان يسير في الشارع وشاهد السيدة بالصدفة وهي تحمل كميات كبيرة من الخبز.
وبرّر المحافظ تصرفه بأنه يهدف إلى توجيه “رسالة لمن يفكر في مخالفة القانون، ويحصل على سلع مدعمة ليست من حقه”.

ردود الفعل على الواقعة
أثار الفيديو المنتشر للمحافظ وهو يصادر أرغفة الخبز من السيدة المسنة موجة انتقادات واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي. وقال الفنان المصري عمرو واكد: “لا يوجد في القانون ما يسمح لأي محافظ بمصادرة طعام المواطنين في منازلهم”.
بينما وصفت الكاتبة والصحفية المصرية شيرين عرفة الواقعة بقولها: “خرج ثالث أعلى مسؤول في البلاد (محافظ الدقهلية) في موكب ضخم كلف عشرات الآلاف من الجنيهات، ركب سياراته الفارهة التي تقدر قيمتها بالملايين، مع حراسه وإعلامييه، ليصوروه وهو يقوم بعملية بطولية، تتبع فيها امرأة فقيرة كانت تقف في طابور العيش”.
وأشار السيد البدوي في برنامج “صالة التحرير” إلى أن ما فعله محافظ الدقهلية مع سيدة الخبز هو “اندفاع البدايات” وليس من حقه القيام بذلك. في المقابل، دافع المحافظ عن نفسه قائلاً إن هذا الإجراء يهدف إلى حماية حقوق المواطنين في الحصول على السلع المدعمة.

التفاوت الطبقي في مصر: مجتمع منقسم
تعكس هاتان الواقعتان المتناقضتان تماماً حجم التفاوت الطبقي في المجتمع المصري، الذي بات أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة. ويرى بعض المحللين أن “التمايز الطبقي في مصر ليس مجرد سلوك عفوي أو فرز اجتماعي طبيعي، بل نمط ممنهج ترعاه السلطة، وتكرسه الطبقة الغنية ذات النفوذ في البلاد”.
ويظهر هذا التفاوت بشكل جلي في الفصل المكاني بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، حيث انتشرت في القاهرة وضواحيها المجمعات السكنية المغلقة “كمباوند” التي تعيش فيها الطبقات الثرية بعيداً عن المناطق الشعبية والعشوائية.
هذا الانقسام الطبقي الحاد جعل المجتمع المصري مقسّماً بين عالمين متوازيين: عالم الأثرياء المحصّن بالأسوار والحراسة، وعالم الفقراء المكشوف للرقابة والمساءلة.
تناقض التعامل مع الفقراء والأغنياء
من أبرز مظاهر التفاوت الطبقي في مصر التناقض الصارخ في تعامل السلطات مع الفقراء والأغنياء. ففي الوقت الذي تلاحق فيه السلطات المواطنين من الطبقات الفقيرة على كل صغيرة وكبيرة، بما في ذلك عدد أرغفة الخبز التي يحصلون عليها، يبدو أنها تغض الطرف عن أصحاب الثروات الضخمة التي لا تخضع للرقابة أو المساءلة.
ويتجلى هذا التناقض في المقارنة بين واقعة محافظ الدقهلية وسيدة الخبز، وبين واقعة سرقة منزل نوال الدجوي. ففي الحالة الأولى، يقوم مسؤول كبير بمصادرة أرغفة خبز قيمتها بضعة جنيهات من مواطنة فقيرة، بينما في الحالة الثانية، تثير سرقة ربع مليار جنيه من منزل سيدة أعمال تساؤلات حول مصدر هذه الثروة وطريقة الاحتفاظ بها خارج النظام المصرفي، دون أن يؤدي ذلك إلى تحقيقات رسمية في مصدر هذه الثروة.
انعكاسات التفاوت الطبقي على المجتمع المصري
يترك التفاوت الطبقي الحاد آثاراً عميقة على نسيج المجتمع المصري. فمن ناحية، يؤدي إلى تآكل الطبقة الوسطى التي كانت تمثل حجر الزاوية في المجتمع المصري، ومن ناحية أخرى، يزيد من حدة التوتر الاجتماعي والشعور بالظلم لدى قطاعات واسعة من المواطنين.
ويتجلى هذا التوتر في ردود الفعل الغاضبة على واقعتي سرقة منزل نوال الدجوي ومصادرة الخبز من السيدة المسنة. فقد أثارت واقعة السرقة تساؤلات حول كيفية امتلاك شخص لمثل هذه الثروة الهائلة وتخزينها في منزله الخاص، في حين أثارت واقعة الخبز استياءً من تشدد الدولة مع الفقراء في أبسط احتياجاتهم المعيشية.
مشكلة المساءلة وشفافية الثروات
تبرز قضية المساءلة وشفافية الثروات كأحد أهم القضايا التي تثيرها واقعة سرقة منزل نوال الدجوي. فرغم الادعاء بأن الأموال المسروقة هي جزء من ميراث عائلي، إلا أن حجم هذه الأموال وطريقة الاحتفاظ بها خارج النظام المصرفي يثيران تساؤلات حول مدى شفافية الثروات الكبيرة في مصر ومدى خضوعها للرقابة والضرائب.
في المقابل، تكشف واقعة مصادرة الخبز من السيدة المسنة عن صرامة الرقابة على الدعم المقدم للفقراء، وعن تشدد الدولة في تطبيق القوانين عليهم. وتوضح هذه المفارقة كيف أن تفاوت القوة في المجتمع يترجم إلى تفاوت في المساءلة والمحاسبة.
خاتمة: مصر المنقسمة وتحدي العدالة الاجتماعية
تلخص واقعتا سرقة منزل نوال الدجوي ومصادرة الخبز من السيدة المسنة صورة مصغرة للمجتمع المصري المنقسم بين أقلية ترفل في الثراء وأغلبية تكافح من أجل لقمة العيش. وتضع هاتان الواقعتان النظام الاجتماعي والاقتصادي الحالي في مصر أمام تساؤلات عميقة حول العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
إن مواجهة التفاوت الطبقي المتزايد في مصر يستدعي إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز آليات المساءلة والشفافية، بما يضمن توزيعاً أكثر عدالة للثروة وتكافؤاً حقيقياً في فرص الحياة الكريمة لجميع المواطنين. فلا يمكن بناء مجتمع مستقر ومزدهر في ظل انقسام حاد بين عالمين متباعدين: عالم الفقر والحرمان وعالم الثراء والامتيازات.










