في خطوة تثير تساؤلات حول توجهات السياسة المالية السعودية ومدى متانة الاقتصاد الوطني، أعلنت شركة أرامكو السعودية عن نيتها إصدار سندات دولية بالدولار، في وقت تتزايد فيه وتيرة لجوء المملكة إلى أدوات الدين لتمويل الإنفاق وتغطية العجز.
يأتي هذا التحرك وسط تراجع أرباح أرامكو وارتفاع التكاليف التشغيلية، ما يطرح علامات استفهام حول قدرة الاقتصاد السعودي على مواجهة التحديات الهيكلية، ومدى استدامة الاعتماد المتصاعد على الاقتراض الخارجي في ظل تقلبات أسواق النفط وضغوط الإنفاق الحكومي. فهل يمثل هذا التوجه مؤشراً على بداية أزمة مالية أم أنه مجرد أداة استراتيجية ضمن خطط تنويع مصادر التمويل؟

إصدار أرامكو سندات دولية… خلفيات ودلالات على الاقتصاد السعودي
أعلنت شركة أرامكو السعودية، عملاق النفط العالمي، عن عزمها إصدار سندات دولية بالدولار ضمن برنامجها للسندات الدولية متوسطة الأجل. وأوضحت الشركة أن السندات ستكون ذات أولوية وغير مضمونة بأصول من أرامكو، فيما ستُحدد قيمة الطرح النهائية بناءً على ظروف السوق. تأتي هذه الخطوة في ظل تراجع أرباح الشركة بنسبة 4.6% في الربع الأول من العام الجاري، نتيجة انخفاض المبيعات وارتفاع التكاليف التشغيلية، إلى جانب ضغوط اقتصادية عالمية وتذبذب أسعار النفط.
وشهد الاقتصاد السعودي خلال السنوات الأخيرة توسعًا ملحوظًا في استخدام أدوات الدين، سواء من خلال السندات أو الصكوك، كوسيلة لتمويل العجز في الميزانية وتوفير السيولة للمشاريع الحكومية والخاصة. وفيما يلي خلفيات أكثر تفصيلًا حول أبرز أدوات الدين التي تم تنفيذها في الاقتصاد السعودي:

1. تطور سوق أدوات الدين الحكومية
منذ عام 2018، عملت تداول السعودية على إدراج العديد من أدوات الدين الحكومية، مع تحسينات مستمرة في البنية التحتية للسوق، ما جعل سوق الصكوك والسندات السعودية من الأكبر في المنطقة. تمثل أدوات الدين الحكومية وسيلة رئيسية لتمويل الميزانية العامة، حيث تصدر الحكومة صكوكًا وسندات بشكل دوري لدعم الإنفاق العام وتنفيذ مشاريع رؤية 2030. في عام 2022، بلغت إصدارات الصكوك المحلية حوالي 116 مليار ريال، بنمو 31% عن العام السابق، مع تنفيذ 28 إصدارًا حكوميًا جديدًا أو معاد فتحه خلال نفس العام. ألغت تداول السعودية بعض الإصدارات القديمة مثل الإصدار رقم 2018-01-7 بقيمة 73.58 مليون ريال بعد انتهاء أجله، في خطوة تهدف إلى تنظيم السوق وتحسين السيولة.
2. تعزيز السيولة وتطوير السوق
أطلقت تداول السعودية مؤخرًا إطار عمل صانع السوق لأدوات الدين، بهدف تحفيز السيولة وتعزيز عمق وتوازن السوق المالية، مع إلزام صانع السوق بتوفير أوامر بيع وشراء مستمرة. بلغت القيمة الإجمالية لسوق الدين في السعودية نحو 800 مليار ريال حتى نهاية 2024، وهو ما يعادل ضعف حجم السوق قبل خمس سنوات، مع سيولة سنوية متداولة تصل إلى 2.5 مليار ريال. تم تسهيل دخول المستثمرين الأفراد والأجانب إلى سوق الصكوك والسندات، عبر خفض الحد الأدنى للاكتتاب والسماح لغير المقيمين بالاستثمار المباشر.
3. إصدارات صندوق الاستثمارات العامة والشركات
توسع صندوق الاستثمارات العامة السعودي في إصدار أدوات الدين، حيث باع منذ بداية 2024 ديونًا بقيمة 7 مليارات دولار بين سندات وصكوك، ضمن استراتيجية لتنويع مصادر التمويل وتقليل الاعتماد على النفط. أصدرت شركات كبرى مثل مصرف الراجحي والبنك السعودي الفرنسي صكوكًا بقيمة إجمالية تجاوزت 2.25 مليار دولار في بداية 2025، ما يعكس تنامي دور القطاع الخاص في سوق الدين.

4. مقارنة وتحديات
رغم هذا النمو، لا تزال أدوات الدين تمثل 11% فقط من تمويل الشركات السعودية، مقارنة بمتوسط 47% في دول مجموعة العشرين، ما يشير إلى وجود إمكانيات كبيرة غير مستغلة بعد. وزير الاستثمار السعودي أشار مؤخرًا إلى أن أسواق أدوات الدين في المملكة لا تزال ضئيلة مقارنة بإمكاناتها، داعيًا إلى مزيد من التوسع وتنويع مصادر التمويل عبر السندات والصكوك.
قيمة سوق الدين السعودي
وقد تجاوزت قيمة سوق الدين السعودي 465 مليار دولار بنهاية الربع الأول من 2025، مع توقعات بتخطي حاجز 500 مليار دولار بنهاية العام، مدفوعًا بزيادة إصدارات الصكوك والسندات وتنامي احتياجات تمويل المشاريع غير النفطية. وتؤكد تقارير دولية أن السعودية تصدرت قائمة أكبر مُصدري الدين بالدولار بين الأسواق الناشئة (باستثناء الصين) في الربع الأول من 2025، كما قادت إصدارات الصكوك العالمية.
هل يشير ذلك إلى تدهور الاقتصاد السعودي؟
يطرح توسع السعودية في الاقتراض تساؤلات حول متانة الاقتصاد، إلا أن المؤشرات الكلية لا تعكس تدهورًا حادًا. فمعدل الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي لا يزال عند مستويات آمنة نسبيًا (نحو 29.9% في 2024، مع توقعات بالوصول إلى 31% في 2025)، وهو أقل بكثير من متوسطات الأسواق الناشئة. كما أن التصنيف الائتماني لأرامكو والسعودية لا يزال قويًا (Aa3 من موديز وA+ من فيتش).
لكن في المقابل، يُعزى ارتفاع وتيرة الاقتراض إلى تزايد العجز المالي وتراجع إيرادات النفط، فضلاً عن التوسع في الإنفاق الاستثماري لتحقيق مستهدفات رؤية 2030. وتُشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى أن المملكة ستواصل تسجيل عجز في الميزانية حتى 2030، ما يعني استمرار الاعتماد على أدوات الدين لتمويل المشاريع الكبرى وتنويع الاقتصاد.
خلاصة
إصدار أرامكو لسندات دولية يأتي في سياق استراتيجي أوسع لتعزيز السيولة وتمويل التوسعات، ولا يُعد مؤشراً على أزمة اقتصادية وشيكة، بل يعكس تحولاً في إدارة المالية العامة نحو تنويع مصادر التمويل واستغلال الفرص الاستثمارية العالمية. ومع ذلك، يبقى استمرار الاعتماد على الدين مرتبطًا بقدرة المملكة على ضبط الإنفاق، وتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط، والحفاظ على مستويات دين آمنة لضمان الاستدامة المالية مستقبلاً.











