من هامش السياسة إلى قمة الدولة: كيف وصلت امرأة “من الضواحي” إلى أعلى منصب بفضل الغضب الشعبي والرغبة في رئيس يتكلم بلا خوف؟
بروفايل شامل عن كاثرين كونولي، الرئيسة الجديدة لأيرلندا التي فازت باكتساح رغم كونها مستقلة ويسارية، وصعودها من الهامش إلى رأس الدولة عبر خطاب جريء ينتقد العسكرة الأوروبية والحرب في غزة ويجذب الشباب. تحليل لمسارها السياسي وتأثير فوزها على المشهد الأيرلندي
في وقت تغرق فيه الملكية البريطانية في فضائح لا تنتهي، ويتخبط الرئيس الفرنسي في أزماته الحكومية المزمنة، تبدو أيرلندا وكأنها تعيش لحظة استثنائية: رئيسة جديدة، منتخبة بنسبة غير مسبوقة، تحمل خطابًا لا يشبه الخطاب التقليدي ولا يطمئن بالضرورة مؤسسات الدولة الأوروبية.
في واحدة من أكثر المحطات السياسية غير المتوقعة في تاريخ أيرلندا الحديث، صعدت كاثرين كونولي، النائبة المستقلة ذات الميول اليسارية، إلى سدة الرئاسة بعد فوز كاسح في الانتخابات، لتصبح الرئيسة العاشرة للجمهورية والثالثة بين النساء.
انتصارها لم يكن مجرد انتقال سلطوي، بل كان رسالة سياسية واضحة بأن المزاج العام في البلاد يبحث عن خطاب جديد خارج المنظومة التقليدية.
مسار مهني يخرج عن القالب التقليدي
ولدت كونولي عام 1957، وشقت طريقها مبكرًا في مجال المحاماة قبل أن تنتقل لاحقًا إلى العمل العام.
في 2016، دخلت البرلمان كنائبة مستقلة عن مدينة غالواي، وتميزت منذ البداية بجرأة مواقفها وبأسلوب معارض لا يلين، ما جعلها شخصية جدلية ولكن مؤثرة في المشهد السياسي.
لم تكن منخرطة في حزب كبير، لكنها استطاعت أن تبني لنفسها رصيدًا شعبيًا يعتمد على استقلاليتها، وقدرتها على التعبير عن قضايا العدالة الاجتماعية ورفض التوجهات العسكرية الأوروبية، إلى جانب مواقف حادة تجاه الحرب في غزة وسياسات الولايات المتحدة وبريطانيا.
فوز كاسح يعيد رسم خريطة النفوذ
في انتخابات تنافسية محدودة المرشحين، حققت كونولي مفاجأة كبيرة بحصولها على . ٦٣% من أصوات الناخبين، مقابل ٢٩% فقط لمنافستها من حزب فاين غيل اليميني.
هذا الفارق العريض — في منصب عادة ما يُنظر إليه على أنه رمزي — يعكس حجم الغضب الشعبي من الأحزاب التقليدية، وحجم التعاطف مع خطاب يساري يتحدث بوضوح وبدون حذر.
٦٣% رقم لم يبلغه أي رئيس أيرلندي منذ إنشاء المنصب عام ١٩٣٨.
إنها كاثرين كونولي: المرأة التي كانت شبه مجهولة حتى داخل بلادها، والتي خرجت من صفوف اليسار الاشتراكي لتصبح الرئيسة الثالثة في تاريخ البلاد.
لكن—وعلى عكس صورتها الهادئة—فإن السجل السياسي للمرأة التي أتت من حي شعبي في غالواي، يشي بمرحلة رئاسية قد تكون الأكثر جرأة وصدامًا منذ عقود.
ورغم أن نسبة المشاركة لم تتجاوز ٤٦%، فإن حجم الأصوات الباطلة — الذي بلغ مستوى غير مسبوق — كشف عن حالة إحباط سياسي واسع قد يشكل تحديًا للرئيسة الجديدة.
رئيسة تحمل أجندة واضحة ومواقف لا تخشى التصعيد
كونولي، التي قدمت نفسها بصفتها “صوتًا للسلام”، تعهدت بالحفاظ على سياسة الحياد العسكري التي تميز أيرلندا منذ عقود، وبالوقوف في وجه ما تصفه بـ”عسكرة الاتحاد الأوروبي”.
منذ اللحظة الأولى، كانت كونولي واضحة في مواقفها:
• هاجمت إسرائيل بلا مواربة.
• اتهمت دولًا غربية—منها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا—بالتربح من “صناعة الموت”.
• شبهت زيادة التسلح الألماني بما جرى في ثلاثينات القرن الماضي.
• انتقدت الاتحاد الأوروبي باعتباره “أسير النيوليبرالية”.
• وصفت موقف الحكومة الأيرلندية من بريكست بأنه “حملة خوف لإخافة البريطانيين”.
ووصلت لحظة التصعيد القصوى حين صرخت تحت قبة البرلمان:
“نحن متواطئون في الإبادة… وأتحدى الجميع أن يقفوا لينهوها.”
هذه الجملة وحدها كانت كافية لتسخين خطوط العلاقات الدبلوماسية مع أكثر من طرف. ، وهي مواقف يتوقع محللون أن تُضعها في منطقة احتكاك مع بعض العواصم الأوروبية وواشنطن.
لكنها في المقابل أكدت، عقب إعلان فوزها، أنها ستكون “رئيسة لكل الأيرلنديين”، وأنها ستحترم حدود الدور الدستوري الممنوح لرئيس الجمهورية.
من الهامش إلى قلب الدولة
كانت كونولي حتى وقت قريب شخصية على هامش المؤسسة السياسية؛ مرشحة مستقلة تفتقر للدعم الحزبي الواسع.
لكن دخول أحزاب اليسار — وفي مقدمتها شين فين وحزب العمال — على خط دعمها في مرحلة حاسمة منح حملتها زخمًا غير مسبوق، خصوصًا في أوساط الشباب الذين انجذبوا لخطابها المباشر وحضورها اللافت على المنصات الاجتماعية.
رئاسة رمزية.. لكن بتأثير متنامٍ
رغم أن منصب الرئيس في أيرلندا ذو طابع شرفي، إلا أن تأثيره الرمزي والسياسي تعاظم خلال العقود الماضية، خصوصًا مع شخصيات مثل ماري روبنسون ومايكل دي هيغينز.
وتتجه التوقعات إلى أن كونولي ستستخدم هذا المنبر لتعزيز رؤيتها حول السلام، العدالة الاجتماعية، وحماية الهوية الأيرلندية في مواجهة التحولات الأوروبية المتسارعة.

لحظة مفصلية في تاريخ أيرلندا
تمثل رئاسة كاثرين كونولي تحوّلًا لافتًا في علاقة الشارع الأيرلندي بالمؤسسة السياسية.
فهي ليست مجرد فوز انتخابي، بل تعبير عن رغبة شعبية في تغيير طريقة التفكير، وإعادة تعريف دور الدولة على المستوى الداخلي والخارجي.
وما إذا كانت كونولي ستنجح في إدارة التوازن الدقيق بين مواقفها الصريحة ومتطلبات المؤسسة، فذلك سيحدد ما إذا كانت رئاستها ستُسجَّل في التاريخ كـ”لحظة تمر”، أم مرحلة جديدة في السياسة الأيرلندية.
أيرلندا تغيّر جلدها؟
يصف خبراء في القانون والدستور صعود كونولي بأنه تحوّل قيم لدى الناخب الأيرلندي، وتفضيل واضح لمرشح لا يخجل من المواجهة.
واللافت أن الرئاسة الأيرلندية—رغم أنها منصب رمزي—تحولت على مدى العقود الثلاثة الماضية إلى منصة ناعمة للضغط الأخلاقي والسياسي.
فروبسون ومكاليز وهيغينز كلهم أظهروا ميلًا لخطاب شجاع، لكن كونولي تبدو النسخة الأكثر مباشرة بينهم جميعًا.
الرئيسة القادمة من بيت سكني متواضع
قصة كونولي الشخصية جزء كبير من جاذبيتها لدى الناخبين، فهي ابنة أسرة من 14 طفلًا، فقدت والدتها في التاسعة، وعملت متطوعة مع جمعيات خيرية منذ مراهقتها.
وبخلفية في علم النفس والقانون، شقت طريقها من مجلس محلي إلى البرلمان ثم إلى ثاني أعلى منصب برلماني، قبل أن تظهر—بهدوء غير لافت—كرئيسة محتملة.
لكن انتخابها بهذه السهولة والاتساع، كان صدمة حقيقية للنخب التقليدية.
هل ستصمت الآن؟
هذا هو السؤال الأكبر داخل دبلن وبروكسل وواشنطن.
هل ستتخفف كونولي من لهجتها الحادة بعد أن أصبحت رئيسة؟
أم أنها ستستخدم المنصب لرفع سقف الخطاب الأخلاقي كما فعل هيغينز… ولكن بلا كوابح؟
في المناظرة الأخيرة قبل الفوز بيومين، سُئلت:
“ماذا ستقولين لدونالد ترامب إذا زار أيرلندا؟”
فأجابت:
“إن كانت زيارة مجاملة فسأبادلها.
أما إن كان الحديث عن الإبادة… فهذا أمر آخر تمامًا.”
وهنا يكمن جوهر الارتباك الأوروبي والأميركي تجاهها:
هل هذا أسلوب رئيس دولة… أم ناشطة متحمسة وجدت نفسها فجأة في قمة الهرم؟
أيرلندا في عهد كونولي: هدوء أم عواصف؟
في بلد محايد، لا جيش فعليًا، ويعتبر الدبلوماسية “رصيده الأكبر”، فإن رئيسة ذات خطاب هجومي ليست تفصيلة بسيطة.
قد تتجنب الصدامات الأسبوعية، كما يتوقع خبراء، لكنها بالتأكيد لن تمرّ مرورًا باهتًا.
ستختار معاركها… لكنها ستخوضها.
وخلف كل ذلك، يقف شعب أعطاها تفويضًا تاريخيًا، لأنه يرى—ربما لأول مرة منذ سنوات—أن “الرئاسة الرمزية” تستطيع أن تقول ما لا يجرؤ السياسيون على قوله.
في النهاية…
البلاد أمام مرحلة جديدة:
رئيسة يسارية، صريحة، لا تخاف المقارنات التاريخية ولا الاتهامات الثقيلة.
ربما تلتزم بالتقاليد… وربما تستخدم المنصب لخلق موجة سياسية تهز أوروبا من الأطلسي إلى بروكسل.
لكن الأكيد أن السنوات السبع المقبلة لن تكون مملة.










