” منذ القدم ، والبشر لا تعاقب إلا من يقول الحقيقة ، إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها ، الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل “، هذا ما فسر به الأديب والمفكر والفيلسوف الألماني «فريدريك فيلهيهم نيتشه» ظاهرة أن يقوم إنسان ما بتحمل عواقب دعم الحقيقة ونصرتها حتي لو أدي ذلك لخسارتهم المادية أو فقدوا حياتهم.
وتطبيقا لما قاله نيتشه ذكرت وسائل إعلام عبرية، أن متظاهرا أمريكيا متضامنا مع الشعب الفلسطيني، اقتحم الملعب خلال استراحة ما بين شوطي مباراة “السوبر بول” الأمريكي، مساء امس الأحد، وهو يلوح بعلمي فلسطين والسودان.
وقالت قناة “كان” العبرية: إن العلم الفلسطيني كان يحمل كلمة “غزة” مكتوبة في وسطه، مع كلمة “السودان” مكتوبة على العلم السوداني.وأشارت إلى أنه تم اعتقال المتظاهر من قبل أفراد الأمن في المباراة التي أقيمت في نيو أورلينز.
وأكدت رابطة كرة القدم الأميركية أن المتظاهر المؤيد للفلسطينيين الذي حاول مقاطعة عرض استراحة ما بين شوطي مباراة السوبر بول كان أحد أعضاء فريق التمثيل في أداء فرقة كندريك لامار.
لقد مات الله !
“لقد مات الله ونحن الذين قتلناه”، لم يكن نيتشه أول من قال هذه العبارة بالرغم من أنه اشتهر بها، ففي الديانة المسيحية هناك معنيان لها، المعنى الحرفي المتعلق بصلب المسيح، والمجازي أي أن الله قد مات في قلوب البشر، ولم يعودوا يتبعون كلامه وتعاليمه.
وكثير ممن فسرو كلام نيتشه، يرون أنه في هذا التعبير لا يعني بالضرورة موت الخالق بالمعنى الحرفي، بل انعدام تطبيق تعاليم الله، كما نسبوا إليه ما سموه “العدمية الوجودية”، التي تعني الاعتقاد بعدم وجود معنى للحياة.
ومما يروى أيضا عن نيتشه أنه كان يعتقد بأن هناك فرقا بين البشر، إذ يعتبر بعضهم من العامة ويشبههم بـ”الخراف”، ويرى بأنهم “تابعون فقط”، ويعتبر آخرين “متميزين وأصحاب عقول متقدمة وأفكار منتقدة”، وكان يؤكد بأن فلسفته لهذا الصنف الثاني فقط.
يعتقد البعض أن نيتشه كان ملحدا، ويرى آخرون أنه على العكس من ذلك لم يرفض مبدأ الدين، بل كان يرى بأن الدين هو “أفضل شيء حصل عليه البشر العاديون”، لكنه يعتقد أن “المميزين ليسوا بحاجة للدين فعقولهم ترشدهم وهم القادة للبقية عندما يختفي الدين”.
ووقف الفنان الأمريكي على سيارة استخدمت كدعامة لعرض لامار ورفع العلم. ولفتت إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كان حاضرا في المباراة، ليكون أول رئيس أمريكي يفعل ذلك، واستقبل بمزيج من الهتافات والاستهجان.
وشاهد ترامب المباراة بين فريق كانساس سيتي تشيفز وفريق فيلادلفيا إيجلز من مقصورة في ملعب سوبر دوم في نيو أورلينز، برفقة ابنته إيفانكا وابنه إريك، بالإضافة إلى العديد من المشرعين الذين رافقوه على متن طائرة الرئاسة إلى نيو أورلينز.
وتأتي زيارة الرئيس للمباراة بعد أقل من أسبوع من اجتماعه مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، حيث أثارت تصريحات ترامب حول غزة والشعب الفلسطيني موجات استنكار في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأثارت معارضة القوى الإقليمية والمجتمع الدولي.
ظاهرة نيتشاوية مقلقة !
واجتاحت موجة من التظاهرات عددًا من الدول الغربية داعية لوقف إطلاق النار في غزة بالتزامن مع استمرار أعمال القصف الوحشي الإسرائيلي، منتقدة أيضا موقف الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ودعمها للعدوان الإسرائيلي على غزة، فكانت المرة الأولى تقريبا التي تخرج فيها احتجاجات بهذا الكم مناصَرة لقضية إسلامية وعربية.
ولهذا، دفعت هذه الاحتجاجات بدورها الحكومات الغربية إلى تغيير موقفها نسبيا أيضا من دعم العمل العسكري الإسرائيلي بشكل مطلق إلى التحرك الدبلوماسي والسياسي للتوصل إلى هدن إنسانية وإدخال المساعدات، ومن ثم الدعوة إلى وقف للحرب.
فماذا تعكس هذه المظاهرات ؟، وهل ستستمر ظاهرة التعاطف مع القضية الفلسطينية بهذا الشكل أم أنها مؤقتة ستنتهي بانتهاء الحرب؟، وما إذا كانت في الأصل ظاهرة وليدة الحرب الأخيرة أم أنها تشكلت من قبلها؟.
وفقا لمشروع بيانات مواقع النزاع المسلح ACLED ))، شهد العالم أكثر من 3700 مظاهرة مناصرة لفلسطين خلال شهر فقط منذ السابع من أكتوبر؛ منها 600 مظاهرة في الولايات المتحدة و170 مظاهرة في ألمانيا و1400 مظاهرة في الشرق الأوسط، وتحديدا منذ توزيع الجيش الإسرائيلي منشورات تحذيرية لسكان شمال غزة بإخلاء المنطقة في 13 أكتوبر الماضي.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يحتج فيها الرأي العام الغربي دعما للفلسطينيين، إلا أن الاحتجاجات الأخيرة كانت لافته بصورة كبيرة باعتبارها دشنت لبروز ظواهر جديدة تخللتها.
كما انتشرت التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية مثل جامعة كولومبيا وكورونيل وبنسلفانيا وجامعة في كانساس، لدرجة دفعت مجلس النواب الأمريكي لاستدعاء بعض رؤساء هذه الجامعات في ديسمبر الماضي، بتهمة سوء التعامل مع الاحتجاجات المعادية للسامية، مثل رئيسة جامعة هارفارد ورئيسة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
وفي استطلاع رأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز بالتعاون مع كلية سيينا اتضح أن الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و29 عاما ( المؤيدين للديمقراطيين ) أكثر انتقادا للإدارة الأمريكية وإسرائيل، ووفقا لاستطلاعات رأي أجراه مركز الدراسات السياسية الأمريكية بجامعة هارفرد وهاريس، فإن 60% يرون أن هجوم حماس مبرر كحركة مقاومة، كما يفضلون إنهاء إسرائيل، لأنهم يعتبرون وجودها في الأصل غير شرعي، فيما يفضل 32% فقط حلالدولتين.
وبمناسبة اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في 29 نوفمبر، شهدت بعض الجامعات والمدارس البريطانية احتجاجات لوقف المجازر في غزة التي ترتكبها إسرائيل، مما استدعى إدارات بعض الجامعات إلى تنبيه الطلاب إلى الامتناع عن المشاركة في أي مظاهرة داعمة لحماس.
حدثت احتجاجات أيضا في بعض الجامعات الألمانية طالبت بوقف الحرب ووصفت ما يحدث في غزة على أنه ” إبادة جماعية ” للسكان، إلا أن إدارة الجامعات والشرطة كانت تمنع الطلاب عن التظاهر وارتداء الوشاح الفلسطيني أو ترديد الشعارات الداعمة لفلسطين مثل ” من النهر إلى البحر “.
كما تدخلت الشرطة الألمانية لفض تظاهرة في جامعة برلين الحرة، احتشد فيها الطلاب تعبيرا عن رفضهم الحرب على غزة، وحتى مُنع رفع العلم الفلسطيني من شرفات المساكن الجامعية، كما حدث في الجامعة الأمريكية الألمانية في برلين.
واعتبر طلاب جامعة برلين للفنون أن موقف إدارة الجامعة ” ليس باسمنا ” كطلاب.
7 منظمات مع غزة
لم تقتصر المشاركة في المظاهرات الداعمة لفلسطين على الرجال فقط، حيث شهدت مشاركة نسائية على نطاق واسع، كإحدى نتائج الخطاب المرئي الذي أظهرته صور وفيديوهات حرب غزة، التي تظهر نساء مسنات ينمن على قارعة الطريق في الشتاء القارس، وأم تبحث عن وليدها، ونساء يضعن حملهن في ظروف غير ملائمة، وأخريات تجرى لهن جراحات بدون مخدر.
إلى جانب افتقاد نساء القطاع إلى المتطلبات الأساسية، وعفوية خطاب الأطفال الناجين من القصف والمصابين، وغيرها من المشاهد المأساوية، في ظل التعنت الإسرائيلي في ملف إدخال المساعدات.
الأمر الذي شكل بدوره دافعا لمشاركة نسوية قوية في المظاهرات، انعكست أيضا في أحاديث قرينات القادة السياسيين عن معاناة نساء غزة مثل أمينة أردوغان والملكة رانيا وغيرها.
في فرنسا تظاهر طلاب جامعة تولوز جان جوريس في مدينة تولوز الفرنسية للتعبير عن تضامنهم مع غزة، رافعين لافتات مكتوب عليها ” لا شيء أكثر نفاقا من الحكومات الإمبريالية التي تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس “، كما طالبت سبع منظمات طلابية بوقف الهجمات على غزة ودعت للتظاهر.
كما حذر معهد اللغات والحضارات الشرقية الفرنسية الطلاب والأساتذة من إظهار الدعم لفلسطين وتوعدهم من خلال رسائل إلكترونية بالعقوبة التي قد تصل إلى الطرد.
كذلك جامعة لوزان في سويسرا، التي احتج طلابها حتى على زيارة ماكرون للبلاد بعد موقفه من حرب غزة في نوفمبر الماضي.
فوفقا لحوارات أجرتها وسائل الإعلام مع بعض الشباب أكدوا خلالها إنهم ” يتعرفون على القضية الفلسطينية من وسائل التواصل الاجتماعي والكتب ومتابعة الوثائقيات “، ولهذا يرفضون دعم حكومتهم لإسرائيل، فالجيل الأصغر لم يتربَ على الدعاية الأمريكية ولا يتفق مع ما تقوله حكومته، لأنهم يرون على أرض الواقع ما يدور في غزة.
ووفقا لآراء بعض الشباب، فهم لم يكونوا يعرفون كثيرا عن الصراع العربي الإسرائيلي، ولهذا تغيرت آرائهم بعد أقل من شهر على الحرب بعد رؤية الرد الإسرائيلي، فجيل Z لا يعرف إسرائيل إلا وهي تحت حكم اليمين المتطرف الذي يحاصر الفلسطينيين.
وفي هذا الإطار، برزت منصتا إنستغرام و تيك توك خلال حرب غزة بشكل واضح، حيث غالبية المشاركين من الشباب والمراهقين، وقادت حملات مناصرة للفلسطينيين تحت شعار freepalestine# الذي حقق ٣١ مليار مشاركة، مقارنة بوسم standwithisrael# الذي حقق ٥٩٠ مليون مشاركة، بعد تدفق لانهائي لمقاطع الفيديو والصور التي تجسد معاناة الفلسطينيين.
وبدأ المؤثرون أو ما يعرف ب ” الإنفلونسرز ” ينقلون صورة مغايرة أمام الشباب والرأي العام عموما عن القضية الفلسطينية وما يحدث حقيقة في غزة، مثل المؤثر الأمريكي جاكسون هينكل الذي وصفته إسرائيل بـ ” عدو إسرائيل على الإنترنت “، ويبلغ من العمر 24 عاما.
وأعلن ترامب، مساء الثلاثاء الماضي، أن الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على قطاع غزة في المستقبل المنظور، بعد إعادة توطين الفلسطينيين في أماكن أخرى.
وجاءت هذه التصريحات بعد بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، في 19 من الشهر الماضي، الذي يتضمن 3 مراحل تستمر كل منها 42 يوما، ويتم خلال الأولى التفاوض لبدء الثانية والثالثة، بوساطة مصر وقطر ودعم الولايات المتحدة.
وارتكبت قوات الاحتلال بدعم أميركي بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و19 كانون الثاني/يناير 2025، إبادة جماعية في غزة خلّفت نحو 160 ألف شهيد وجريح فلسطيني معظمهم أطفال ونساء وما يزيد على 14 ألف مفقود، وإحدى أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.