في بلد مضطرب اجتماعياً وسياسياً، تصبح المخابرات إحدى أدوات تماسك الدولة. فهي المؤسسة التي تعمل فوق الانقسامات، وتتحرك خارج الاستقطاب، وتحرس الفضاء العام من الانهيار. من هذا المنطلق، اكتسبت الجولات الميدانية التي قام بها المدير العام لجهاز المخابرات دلالتها الأعمق: ربط الأمن بالوحدة الوطنية.
لم تكن جولات الفريق أول “أحمد إبراهيم مفضل” على بيوت المبدعين، وأسر الشهداء، والجرحى في المشافي، تعبير عن فعل سياسي مباشر، بل عن إدراك مؤسسي بأن الأمن يُبنى أيضا بإعادة وصل ما انقطع في النسيج الاجتماعي.
خرج جهاز المخابرات العامة من عزلته التقليدية، وتقدم إلى المجال العام بوصفه طرف معني بحماية المجتمع. بعد 15 أبريل 2023، لم يعد الأمن وظيفة إجرائية، بل ممارسة اجتماعية تسعى إلى ترميم الثقة في دولة أنهكتها الحرب والانقسام.
حين تولى “مفضل” قيادة المخابرات، كان الجهاز قد خرج لتوه من عملية تفكيك قاسية نفذتها حكومة حمدوك. لم يكن التحدي استعادة الصلاحيات القانونية، بل إعادة بناء المعنى والدور. قاد عملية إعادة ترتيب هادئة أعادت الجاهزية، دون استعراض أو صدام سياسي. كانت إدارته أقرب إلى إدارة أزمة ممتدة منها إلى قيادة تقليدية.
وفي معركة المليشيا على الهوية والذاكرة، عبر التهجير القسري وإعادة توزيع السكان، لعب جهاز المخابرات دوراً حاسماً في الحفاظ على العروة الوثقى من التفكك، ومنع تحويل الجغرافيا إلى فراغ قابل لإعادة الهندسة. لم يكن ذلك دفاعاً عن الأرض فقط، بل عن المجتمع بوصفه كيان تاريخي حي.
ومع تمدد الحرب، نشأت اقتصاديات موازية تقوم على النزوح، والتهريب، والجريمة المنظمة. تصدى الجهاز لهذه الظواهر بوصفها تهديد مباشر للأمن القومي، لا مجرد انحرافات اجتماعية. كان ضبط هذه المساحات ضرورة لحماية ما تبقى من الاستقرار، ومنع تحول الهشاشة الاجتماعية إلى بنية دائمة.
في معركة الكرامة، لم يكن جهاز المخابرات طرف ثانوي بل شارك عسكرياً واستخبارياً، وقدم مئات الشهداء في صراع ظاهره عسكري، وجوهره صراع على احتكار الدولة للعنف المشروع. كان الهدف مواجهة مشروع يسعى إلى تفكيك الدولة، وإحلال سلطة المليشيا محل المؤسسات. في هذا السياق، تحول العمل الاستخباري إلى خط دفاع وجودي عن بقاء الدولة السودانية.
جولات الفريق أول “مفضل” لم تكن حدث منفصل، بل جزء من رؤية كلية، ترى في الأمن أداة لحماية المجتمع، لا السيطرة عليه. هكذا أعاد مفضل صياغة المخابرات: مؤسسة سيادية جامعة، تحرس الدولة، وتحمي الذاكرة، وتمنع تحويل الإنسان إلى مادة خام في مشاريع التفكيك.










