ألقت إسرائيل بحجر ثقيل في بركة القرن الأفريقي الساخنة.. دون مقدمات طويلة، وقّعت جمهورية “صوماليلاند” أو “أرض الصومال” اتفاقاً يمهد لانضمامها إلى روح الاتفاقيات الإبراهيمية، فكافأتها إسرائيل بالاعتراف الرسمي بها كدولة مستقلة، لتكسر بذلك حاجزاً دام أكثر من 34 سنة منذ إعلان استقلالها من جانب واحد عن الصومال في العام 1991.
الخطوة الإسرائيلية أثارت غضباً عربياً وإقليمياً واسعاً، عبرت عنه جامعة الدول العربية ببيان شديد اللهجة، ودول مثل مصر والسعودية وتركيا وغيرها. ولا يتوقع أحد أن الغضب العربي والإفريقي سيغير من هذا السيناريو المدعوم أمريكياً ضمنياً.
“أرض الصومال” كانت دولة قائمة بذاتها تحت الحماية البريطانية، إلى أن نالت استقلالها في 26 يونيو 1960، لكنها اختارت طوعاً الانضمام إلى الدولة الصومالية الموحدة بعد خمسة أيام فقط من استقلالها، رغم اعتراف 35 دولة بها حينئذ. فأصبحت جزءاً من الدولة الصومالية في 1 يوليو 1960.
لكنها ظلت تشكو من الإهمال والتهميش طوال حكم الرئيس سياد بري، وانتهزت فرصة الإطاحة به وتفكك الدولة الصومالية بين أمراء الحرب، فأعلنت استقلالها من جانب واحد.. وفشلت في الحصول على أي اعتراف دولي حتى أمس الأول 26 ديسمبر 2025، حين أهدتها إسرائيل بطاقة الاعتراف الأولى في مقابل إعلان الانضمام إلى روح الاتفاقيات الإبراهيمية.
إسرائيل عينها على باب المندب وبقية البحر الأحمر، وتتطلع إلى دور محوري في القارة الإفريقية من موقع قوي في القرن الإفريقي. وتتسق هذه التطلعات مع الاستراتيجية الأمريكية التي تنظر بمنتهى الحذر إلى التغلغل الصيني والروسي في إفريقيا.
لكن الخطوة في المقابل تمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي لأقوى دولتين في المنطقة: مصر والسعودية.
ودون الدخول في تفاصيل هذا التهديد –لضيق المساحة هنا– فإن السؤال الجوهري الذي يهمنا: أين السودان في خارطة هذه التطورات والتفاعلات الإقليمية؟
انشغال السودان بنفسه في حربه الممتدة منذ 15 أبريل 2023 أفقده كثيراً من أدوات الفعل، وبالكاد يبحث لنفسه عن موطئ قدم في دوائر الضوء. ويزيد من غربة السودان في تطورات الإقليم غياب الدولة القوية التي تمعن التحديق في رقعة الشطرنج الدولية، وترصد المتغيرات، وتعيد التموضع حيث يجب أن تؤثر ولا تتأثر بالمجريات.
السودان تنقصه المؤسسات البصيرة ذات البعد الاستراتيجي، ولا يتمتع بسياسة خارجية مدروسة، وتبحر سفينة علاقاته الدولية بلا بوصلة في بحر لجي مظلم.
رغم كونه الدولة الأوفر قدرة على رسم المحاور وقيادة استراتيجيات نافذة على مستوى القارة والقرن الإفريقي.
بقدر ما تجتهد مصر والسعودية في رعاية السودان دولياً وتخفيف الضغوط عليه وامتصاص الصدمات والمحافظة على سيادته واستقراره، لا يقدر السودان على الرد بالمثل بخدمة مصالحه، فضلاً عن مصالح مصر والسعودية في الإقليم.
اعتراف إسرائيل بـ”أرض الصومال” ليس مشكلة في حد ذاته، فقد ظلت لعقود دولة فعلية بحدود جغرافية وعلم وعملة وجيش وشرطة وقضاء مستقل عن الصومال، بل حظيت باستقرار أمني وسياسي لدرجة تداول السلطة عبر الانتخابات أكثر من مرة، بينما الصومال الأم تئن تحت وطأة المنظمات الإرهابية.
لكن الهواجس العربية والإقليمية ناشئة من متغيرات موازين القوى التي قد تصنعها إسرائيل في المنطقة.
نعود للسؤال المحوري: ما الذي كان حرياً بالسودان فعله؟ وما الذي لا يزال بإمكانه فعله لمواجهة هذه التطورات المهمة؟
سأوضح ذلك..










