في خضم الأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بين البيت الأبيض وكييف، برز حديث الملياردير المسيحي نجيب ساويرس عن “أذكى قرار” اتخذه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعدم الاستجابة لدعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقائه في فبراير/شباط 2025.
يأتي هذا التعليق في سياق مشهدية سياسية معقدة، حيث شهدت واشنطن مواجهة غير مسبوقة بين ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، انتهت بطرد الأخير من البيت الأبيض أمام وسائل الإعلام، وفق ما أكدت تقارير إخبارية متعددة.
تتيح هذه الأحداث قراءةً جديدةً لاستراتيجيات التعامل مع الإدارة الأمريكية الحالية، خاصة في ظل تصاعد النبرة العدائية في السياسة الخارجية لواشنطن.
التحول في نهج البيت الأبيض تجاه التحالفات الدولية
شهدت الفترة الثانية لرئاسة ترامب تحولاً جذرياً في التعامل مع الحلفاء التقليديين، حيث اعتمدت الإدارة الأمريكية أسلوباً قائماً على “الصفقات الفردية” بدلاً من التحالفات الاستراتيجية.
تجلى هذا النهج في التعامل مع أوكرانيا، حيث واجه زيلينسكي اتهاماتٍ بعدم الامتنان لدعم واشنطن، رغم التضحيات الأوكرانية في مواجهة الغزو الروسي.
بلغت المواجهة ذروتها عندما أعلن ترامب صراحةً أن زيلينسكي “ليس مستعداً للسلام” إذا تطلّب الأمر مشاركة أمريكية فاعلة، وهو ما فسّره محللون سياسيون كمحاولة للضغط على كييف لقبول شروط موسكو.
السياق المصري: دعوة ورفض
في منتصف فبراير/شباط 2025، تلقى الرئيس السيسي دعوةً من ترامب لزيارة واشنطن، تزامنت مع تصاعد الحديث عن “خطة تهجير سكان غزة” إلى سيناء، والتي عارضتها القاهرة علناً.
رغم الإغراءات الدبلوماسية المتمثلة في تعزيز العلاقات الثنائية، اختار السيسي التريث، مفضّلاً التنسيق العربي عبر قنوات متعددة الأطراف، كما أشارت تصريحات العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني حول إعادة إعمار غزة.
هذا القرار الذي أشاد به ساويرس لاحقاً، لم يكن مجرد رد فعلٍ آني، بل نتاج حسابات استراتيجية تعكس فهمًا عميقًا لتحوّلات السياسة الأمريكية.
تشريح الأزمة الأوكرانية: دروس للدبلوماسية العالمية
تفاصيل المواجهة الكاشفة
كشفت التسريبات الإعلامية أن الاجتماع بين ترامب وزيلينسكي تحوّل إلى مسرحٍ لتبادل الاتهامات العلنية، حيث وصف ترامب تصريحات نظيره الأوكراني بأنها “تفتقر للاحترام”، بينما ردّ زيلينسكي بسخريةٍ لاذعةٍ عبر منصته على “إكس”: “شكراً أمريكا على دعمك!”.
الأهم من التفاصيل الدرامية، هو الإطار الهيكلي الذي كشفته الأزمة: تحوّل البيت الأبيض إلى ساحةٍ للمفاوضات العلنية عوضاً عن القنوات الدبلوماسية التقليدية، مما يعرّض الحلفاء لخطر الإذلال العام.
المقارنة مع الموقف المصري
في المقابل، تميزت الإدارة المصرية بحرفيةٍ في تجنّب الدخول في مواجهةٍ مماثلة. يعود هذا جزئياً إلى الدروس المستفادة من أزمة “صفقة القرن” عام 2020، حيث نجحت القاهرة في تحييد الضغوط الأمريكية عبر تحالفات إقليمية.
كما أن رفض السيسي المبدئي لخطة التهجير -الذي عبّر عنه ساويرس بقوة- منح مصر رصيداً أخلاقياً في المحافل الدولية، بينما وجدت واشنطن نفسها منعزلةً حتى عن حلفائها الأوروبيين في هذه القضية.
البعد الجيوسياسي: مصر وأوكرانيا في مرآة السياسة الترامبية
التشابهات والاختلافات الجوهرية
رغم الاختلاف الواضح بين السياقين الأوكراني والمصري، تُظهر المواقف الأخيرة تشابهاً في تعامل الإدارة الأمريكية مع القضايا الدولية:
- الابتزاز الدبلوماسي: استخدام الدعم العسكري أو الاقتصادي كورقة ضغطٍ علنية، كما حدث مع تهديد ترامب بوقف المساعدات لأوكرانيا ما لم تقبل شروطه.
- التسويق الإعلامي: تحويل المفاوضات إلى عروضٍ تلفزيونيةٍ تخدم الشعبوية المحلية، كما ظهر في بثّ الخلاف مع زيلينسكي مباشرةً.
لكن الفارق الحاسم يكمن في الاستجابة: بينما اضطرت أوكرانيا -التي تعتمد عسكرياً على واشنطن- للدخول في هذا النموذج المواجهي، تمكّنت مصر من تفاديه عبر:
- تعزيز التحالفات البديلة: عبر القمة العربية الطارئة التي عُقدت في الرياض فبراير/شباط 2025، والتي أعلنت رفضاً عربياً موحداً لخطة التهجير.
- استغلال التناقضات الأمريكية: من خلال التواصل مع الأطراف المعتدلة في الكونغرس، كما ظهر في اتصال السيسي بزعيم الأقلية الديمقراطية تشاك شومر.
قراءة في العقلية الترامبية: لماذا يُعتبر تجنّب المواجهة قراراً حكيماً؟
سيكولوجيا التفاوض عند ترامب
تحليل خطاب ترامب خلال الأزمة الأوكرانية يُظهر نمطاً ثابتاً يعتمد على:
- التصعيد الاستعراضي: كاستخدام عبارات مثل “أنت تقامر بحرب عالمية ثالثة” لإثارة الرأي العام.
- التلويح بالعقوبات الفورية: كما في إلغاء المؤتمر الصحفي المشترك مع زيلينسكي فوراً.
- تحويل الخصم إلى “مُتسوّل”: عبر تصوير الطرف الآخر كمستفيدٍ من دعم واشنطن دون مقابل، كما ظهر في اتهامات “عدم الامتنان”.
في هذا السياق، يصبح قرار أي زعيمٍ بالدخول في مفاوضاتٍ علنيةٍ مع ترامب مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، إذ تُختزل القضايا المعقدة إلى سيناريوهات ثنائية (الفائز/الخاسر)، وهو ما يُضعف الموقف التفاوضي للطرف الأضعف.
الحسابات المصرية: دروس من التاريخ القريب
تعلمت الدبلوماسية المصرية من أخطاء آخرين:
- تجربة ماكرون: الرئيس الفرنسي الذي دخل في مواجهةٍ مباشرةٍ مع ترامب حول اتفاقيات الناتو عام 2024، وانتهى الأمر بتهميش الدور الفرنسي.
- حالة بايدن: الرئيس السابق الذي وصفه ترامب بـ”الضعيف” خلال حملته الانتخابية، مما أضعف مصداقية وعود واشنطن التحالفية.
هذه العوامل جعلت من “الغياب التكتيكي” -كما عبّر ساويرس- خياراً óptimalاً للحفاظ على هيبة الدولة المصرية دون الدخول في صدامٍ مكلف.
تداعيات القرار المصري على السياسة الإقليمية
تعزيز الموقف التفاوضي العربي
أسهم غياب السيسي عن لقاء ترامب في:
- توحيد الموقف العربي: حيث أصبحت مصر مركزاً للتنسيق الإقليمي، بدلاً من أن تتحول لقاءات ثنائية مع واشنطن إلى أداةٍ لتفكيك التضامن العربي.
- إرباك الحسابات الأمريكية: فشلت محاولات واشنطن لعزل مصر عبر تصويرها كعقبةٍ أمام “صفقة القرن الجديدة”، خاصة مع إعلان الملك عبدالله عن خطة إعمار غزة بمشاركة عربية.
إعادة تعريف العلاقة مع واشنطن
لم يكن الرفض المصري مجرد رد فعل، بل جزءاً من استراتيجيةٍ أوسع لإعادة هيكلة العلاقة مع القوة العظمى:
- من منطق التبعية إلى الشراكة النسبية: عبر التأكيد على المصالح المتبادلة في ملفاتٍ مثل أمن البحر الأحمر والتعاون الاستخباري.
- استخدام القوة الناعمة: كالدعوة المصرية لترامب لزيارة المتحف المصري الجديد، التي حوّلت المسار من التفاوض تحت الضغط إلى التفاعل الحضاري.
خاتمة: دروس مُستقبلية للدبلوماسية في عصر الترامبية
تكشف الأزمة الأوكرانية والموقف المصري عن تحوّلٍ جوهري في قواعد اللعبة الدبلوماسية:
- نهاية عصر “الصداقات الشخصية”: حيث لم تنفع علاقة ترامب-زيلينسكي السابقة في منع الأزمة.
- أهمية التنسيق متعدد الأقطاب: كما نجحت مصر في توظيفه عبر الحوار العربي والأفريقي.
- فنّ إدارة الغياب: الذي أصبح سلاحاً فعالاً في مواجهة السياسات الشعبوية.
في هذا السياق، يبدو قرار السيسي -الذي أشاد به ساويرس- نموذجاً يُحتذى للقادة الوطنيين الذين يسعون لحماية مصالح بلادهم في زمنٍ تطغى فيه العواطف على العقلانية السياسية.