جال بادينق
في وطنٍ أنهكته الحروب، وتقطّعت فيه الأواصر بين شركاء الدم والتاريخ، لا تزال أصوات البنادق تعلو فوق نداءات السلام، وتُمنح شرعية الموت أكثر من شرعية الحياة. فجنوب السودان، الدولة الوليدة التي خرجت من رحم المعاناة، تواجه اليوم معركة جديدة ليست ضد عدو خارجي، بل معركة داخلية تُغذّيها سياسات الإقصاء والتمييز والتصنيفات العرقية والسياسية.
ما يحدث ليس مجرد صراع مسلح في الأطراف، بل سياسة ممنهجة تُمارس بوعي كامل، تستهدف مناطق بعينها تحت غطاء “استعادة الأمن”، بينما الهدف الحقيقي هو إسكات الصوت الآخر وإخضاع الإرادات الرافضة للهيمنة والانصياع.
إن القضية تتجاوز في جوهرها حادثة القارب والرهائن التي تم الترويج لها إعلامياً؛ فهذه ليست سوى غطاء لحملة أوسع وأكثر تعمداً تهدف إلى تقويض وجود الحركة الشعبية في المعارضة (SPLM-IO) ومحو تأثيرها في المناطق التي لا تزال خارج السيطرة الكاملة للحكومة. الأحداث الأخيرة لا تأتي بمعزل عن السياق، بل تتناغم مع خطة استراتيجية تصاعدية تعتمد على توظيف الأزمات الأمنية لإعادة تشكيل خريطة الولاءات السياسية في البلاد.
ويبدو أن هذه الحملة تستند إلى تقرير خطير أعدّه كل من الوزير مارتن والناطق باسم الحكومة مايكل مكوي لويث، صنّف فيه مقاطعات النوير إلى فئتين: “عدائية” ترتبط بالمعارضة أو ترفض الخضوع الكامل للنظام، و”ودية” يُنظر إليها كحليفة أو غير متمردة. وقد مهّد هذا التصنيف الطريق أمام تدخلات عسكرية، وتضييق إنساني، وعمليات استهداف مباشر طالت مدنيين تحت ذرائع أمنية مفتعلة.
وفي هذا السياق، شهدت مقاطعة فانجاك بولاية جونقلي بتاريخ 3 مايو 2025 اعتداءً عسكرياً واسعاً استهدف مناطق مدنية مأهولة، وأسفر عن سقوط ضحايا ونزوح جماعي، في انتهاك صارخ لاتفاقية وقف إطلاق النار. وقد سبقت هذا الهجوم سلسلة عمليات مشابهة في الناصر، أولانق، ولونقشوك خلال شهر مارس المنصرم، حيث تعرضت قرى وبلدات للقصف العشوائي وتدمير للبنية التحتية، مما ضاعف من حجم المعاناة الإنسانية وأجّج مشاعر الغضب والظلم في أوساط الأهالي.
إن ما يجري اليوم يمثل تتويجًا لنهج الانتقام السياسي والإقصاء المتعمد، حيث تُعامل المناطق الخارجة عن نفوذ الحكومة كأعداء وجوديين لا كشركاء في مشروع الوطن. والأسوأ أن هذا النهج لا يقتصر على الداخل فقط، بل يجد دعماً إقليميًا ودوليًا من جهات ترى في هذا الانقسام فرصة لحماية مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية على حساب وحدة أو عدم استقرار جنوب السودان.
إن تجاهل دعوات المصالحة، والاستمرار في تصنيف أبناء الوطن الواحد إلى “أعداء” و”أصدقاء”، يهدد بتفكك النسيج الوطني، ويقود إلى حرب أهلية مفتوحة تُجهض أي أمل في سلام دائم. فكل منطقة تُستهدف اليوم بسبب انتماء سياسي أو قبلي، هي خسارة لكل الجنوب، وكل طفل يُشرّد أو يُقتل هو شاهد على فشل مشروع الدولة الوطنية.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في هذه السياسات الكارثية، وفتح باب حوار وطني شامل لا يُقصي أحدًا، ولا يُصنّف المواطنين بحسب أعراقهم أو ولاءاتهم. وحده المسار السياسي الشامل والعادل هو الذي يُنقذ البلاد من هذا المنحدر، ويضع الأساس لسلام حقيقي وشراكة متوازنة.
إنّ ما يجري اليوم في فانجاك، وفي الناصر وأولانق ولونقشوك، وغيرهم من المناطق الأخري في الاستوائية . ليس مجرد أحداث عابرة في هامش الجغرافيا، بل رسائل ميدانية تحمل توقيع السلطة، مضمونها واضح: من ليس معنا فهو عدو. لكن هذه المعادلة الخطيرة تهدد بتفكيك ما تبقّى من النسيج الوطني، وتحرم الأجيال القادمة من حلم الدولة الجامعة.
وفي هذا المشهد المحتقن، تستعيد الذاكرة كلمات الرئيس الأمريكي الأسبق أبراهام لينكولن إبّان الحرب الأهلية الأميركية، حين قال:
“نحن لسنا أعداء، بل أصدقاء. لا يجب أن نكون أعداء. فرغم أن العاطفة قد توترت، فلا بد أن لا تقطع أواصر المودّة بيننا.”
إنها كلمات تنتمي لكل شعب تمزقه الخلافات، وتحتاج جنوب السودان اليوم إلى أن تتبناها قيادة وشعباً.
فالتاريخ لن ينسى من يزرع الموت في زمن يحتاج إلى المصالحة، ولن يغفر لأولئك الذين استبدلوا الحوار بالقصف، والشراكة بالإقصاء، والمواطنة بالولاء الأعمى. وعلى صانعي القرار أن يدركوا أن الشعوب قد تصبر، لكنها لا تنسى، وأن السلم الحقيقي لا يُبنى بالمدافع والهاونات، بل بالإرادة السياسية النزيهة، والعدالة التي لا تميز بين مركز وهامش، ولا بين القبائل، نويراوي وشلكاوي أو دينكاوي أو مرلاوي، بارياوي ولا بلندة أو جورشول، لاتوكاوي، المنداري، وغيرها.
ختاماً:
نحن بحاجة ماسّة إلى وقفة مراجعة جادّة مع ذواتنا وتاريخنا، لنسأل: هل هذه هي الدولة التي حلمنا بها؟ لماذا تُصنّف الجنوبيين سودانيين بمناطقهم ومواطنون بحسب قبائلهم ومواقفهم السياسية؟ ولماذا نُقصي الآخر بدلاً من أن نبحث عن نقاط التلاقي؟
إن السياسات المتبعة في جوبا يجب أن تُخضع للمساءلة قبل أن تُبتلع الدولة بأكملها، وقبل أن يتحوّل الشتات إلى قدر دائم، وتنهار ما تبقى من جسور الثقة بين مكونات المجتمع.
فلنُحكّم صوت العقل قبل أن تُدفن آمال السلام تحت ركام الكراهية، ولنجعل من دماء الأبرياء جسرًا للنجاة، لا مستنقعًا جديدًا للصراع والضياع الشعب جنوب السودان الي الشتات من غير المصلحة لا تنفعنا جميعا.