في ظل تصاعد الحصار الاقتصادي الأمريكي على إيران، برزت قضية استهداف ناقلات النفط الإيرانية كأحد أبرز أدوات الضغط الدولي، حيث تحول جزء كبير من الأسطول الإيراني إلى “خردة” بسبب القيود المفروضة على عمليات الصيانة والتجديد، فضلًا عن صعوبة تأمين قطع الغيار نتيجة العقوبات.
تعتمد إيران بشكل شبه كلي على عائدات النفط، التي تشكل ما يقارب 70% من إجمالي مواردها المالية، مما يجعل أي اضطراب في سلاسل التوريد البحرية ضربة استراتيجية لاقتصادها.
تشير البيانات الحديثة إلى أن 62% من ناقلات النفط العملاقة (VLCCs) الإيرانية، التي تبلغ سعتها 300 ألف طن، أُدرجت على القوائم السوداء الأمريكية، مما يعيق قدرتها على نقل الخام إلى الأسواق العالمية.
الهيكل العمري للأسطول الإيراني وأزمة التجديد
تشير سجلات الشحن إلى أن 16 ناقلة نفط إيرانية يبلغ عمرها 19 عامًا على الأقل، بينما تعمل ثلاث سفن أخرى منذ عام 1996، أي ما يقارب ثلاثة عقود.
هذا العمر المتقدم يجعلها عرضة للأعطال المتكررة ويرفع تكاليف الصيانة، خاصة مع صعوبة الوصول إلى أحواض الإصلاح الدولية بسبب العقوبات.
وفقًا لتحليلات “بلومبرغ”، فإن ناقلة مثل “نولان” الهندية، التي بُنيت عام 1998، توقفت عن العمل تمامًا بعد فرض العقوبات عليها عام 2019، وأصبحت مرشحة للتفكيك وبيعها كخردة.
يُقدّر متوسط تكلفة استبدال ناقلة VLCC جديدة بحوالي 25 مليون دولار، وهو مبلغ تفوق إمكانيات إيران الحالية تحت وطأة العقوبات.
استراتيجيات الالتفاف الإيرانية: من التخزين العائم إلى التحويلات السرية
لتعويض تراجع القدرة الناقلة، لجأت طهران إلى أساليب غير تقليدية، مثل استخدام السفن القديمة كوحدات تخزين عائمة في المياه الإقليمية، حيث تُحمّل النفط الخام فيها كاحتياطي استراتيجي.
كما تعتمد على عمليات النقل من سفينة إلى أخرى (Ship-to-Ship) في مناطق بعيدة عن الرقابة، مثل مياه ماليزيا الإقليمية، حيث تُنقل الشحنات سرًا إلى ناقلات تحمل أعلامًا وهمية أو تُغيّر مسارها الإلكتروني عبر إيقاف أجهزة التعريف الآلية (AIS).
على سبيل المثال، كشفت صور الأقمار الصناعية عن لقاء السفينة الإيرانية “فيليسيتي” مع الناقلة الصينية “تيان ينج زو” قبالة سواحل ماليزيا عام 2019، حيث نُقل مليون برميل من الخام الإيراني بشكل غير قانوني.
الدور الصيني والهندي في شبكة التهريب
تُظهر البيانات تورط شبكات وساطة في دول مثل الصين والهند في تسهيل عمليات بيع النفط الإيراني، حيث تستخدم شركات وهمية لإخفاء هوية المشترين.
ففي فبراير 2025، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أربع شركات هندية متورطة في بيع منتجات نفطية إيرانية، بينما استهدفت شبكات صينية تعمل كوسطاء لشحنات الخام عبر ميناء جينزو.
من ناحية أخرى، تشير تقارير “كبلر” إلى أن الصين تستورد ما يقارب 1.3 مليون برميل يوميًا من النفط الإيراني عبر مصافٍ مستقلة، تعتمد على ناقلات “الأسطول المظلم” لتجنب العقوبات.
التأثير الاقتصادي للعقوبات على القطاع النفطي الإيراني
رغم أن صادرات إيران النفطية لم تشهد انهيارًا كاملًا، إلا أن العقوبات خفضت عائداتها بنسبة 40% مقارنة بفترة ما قبل 2018، وفقًا لتقديرات منظمة USAID.
أدى ذلك إلى تراجع الاستثمارات في قطاع النفط، حيث أُجّلت مشاريع تطوير حقول مثل “آزاديجان” و”يادافاران” بسبب نقص التمويل والتكنولوجيا الغربية.
كما اضطرت إيران إلى بيع خامها بخصومات تصل إلى 30% تحت سعر السوق لجذب مشترين مستعدين لتحمل مخاطر العقوبات، مما قلص هوامش الربح بشكل حاد.
التحديات اللوجستية وارتفاع تكاليف الشحن
أدت العقوبات إلى ارتفاع تكاليف شحن النفط الإيراني بنسبة 50% مقارنة بالأسعار العالمية، بسبب صعوبة تأمين خدمات التأمين البحري وضرورة الاعتماد على شركات شحن ظل ذات رسوم مرتفعة.
بالإضافة إلى ذلك، اضطرت العديد من الناقلات إلى اتخاذ طرق أطول لتجنب نقاط التفتيش الدولية، مثل الالتفاف حول أفريقيا بدلًا من استخدام قناة السويس، مما يزيد من استهلاك الوقود والوقت.
الاستجابة الدولية وتداعيات الأسواق العالمية
أدت العقوبات الأمريكية إلى إرباك أسواق النفط العالمية، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 15% في الربع الأول من 2025 بسبب مخاوف من نقص المعروض.
لكن هذا الارتفاع لم يستفد منه الاقتصاد الإيراني، بل عززت واشنطن تعاونها مع دول الخليج لتعويض أي نقص محتمل عبر زيادة إنتاج السعودية والإمارات.
من جهة أخرى، شهدت السوق السوداء للنفط الإيراني نموًا ملحوظًا، حيث تقدّر حجم التهريب عبر طرق مثل العراق وسوريا بنحو 500 ألف برميل يوميًا، يتم تداولها بعملات رقمية أو مقايضات سلعية.
آفاق المستقبل: بين استمرار الحصار وابتكار الحلول
تشير التوقعات إلى أن إيران قد تعتمد أكثر على تحالفات إقليمية، مثل التعاون مع فنزويلا في تبادل الخام الثقيل بالمكثفات الخفيفة، أو تعزيز العلاقات مع روسيا لاستئجار ناقلات من أسطولها الظل.
ومع ذلك، فإن نجاح هذه الاستراتيجيات مرهون بقدرة طهران على تجديد أسطولها النفطي، الذي يتطلب استثمارات لا تقل عن 3 مليارات دولار على مدى خمس سنوات، وفقًا لتقديرات قطاع الشحن الدولي.
في المقابل، تواصل الولايات المتحدة تطوير آليات رصد أكثر تطورًا، مثل الأقمار الصناعية ذات الدقة العالية وأنظمة الذكاء الاصطناعي لتتبع تحركات الناقلات المشبوهة في الوقت الفعلي.
الخلاصة: اقتصاد تحت الحصار وأسطول على حافة الانهيار
تكشف أزمة ناقلات النفط الإيرانية عن التداخل المعقد بين الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالمي، حيث تحاول طهران الحفاظ على شريانها المالي الحيوي رغم التحديات اللوجستية والقانونية.
بينما تنجح العقوبات في تقليص العائدات المباشرة، تظهر ثغرات في النظام الدولي تسمح باستمرار تدفق النفط عبر قنوات سرية.
مستقبلًا، قد تشهد الساحة تصعيدًا تقنيًا بين آليات الحصار الأمريكي وابتكارات التهريب الإيرانية، في معركة تحددها القدرة على التكيف مع بيئة متغيرة بسرعة.