فرنسا: فضيحة تجسس تهز وزارة الاقتصاد بعد اعتقال مسؤول متهم بالتخابر مع الجزائر
كشفت وسائل الإعلام الفرنسية يوم الخميس 13 مارس 2025 عن تفاصيل صادمة لقضية تجسس داخل أروقة الحكومة الفرنسية، حيث تم إحالة موظف في وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية إلى القضاء بتهمة التجسس لصالح المخابرات الجزائرية. وتأتي هذه القضية النادرة في سياق العلاقات المتوترة أصلاً بين باريس والجزائر، لتضيف بعداً جديداً للصراع الدبلوماسي بين البلدين. وبحسب صحيفة “لوباريزيان” الفرنسية، فإن المتهم الذي يحمل الجنسيتين الفرنسية والجزائرية كان يسرّب معلومات سرية عن معارضين جزائريين مقيمين في فرنسا، مستغلاً منصبه الحساس في الوزارة، مما أثار قلقاً أمنياً فرنسياً من خطورة عمليات التجسس التي تعتبر ذات عواقب وخيمة قد لا تقل خطورة عن التهديدات الإرهابية.
تفاصيل القضية وخلفياتها
بدأت خيوط هذه القضية تتكشف عندما ألقت المديرية العامة للأمن الداخلي الفرنسي (DGSI) القبض بشكل سري على موظف يعمل في وزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية يوم 16 ديسمبر 2024، إثر شكوك حول تورطه في تسريب معلومات حساسة إلى أجهزة الاستخبارات الجزائرية. ويبلغ المتهم من العمر 56 عاماً، ويعمل في الإدارة الفرعية للرقمنة في الإدارة المركزية (SDNAC) التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية، حيث كان يتمتع بصلاحيات تمكنه من الوصول إلى بيانات وملفات سرية. وقد تمت إحالة المتهم إلى القضاء يوم 19 ديسمبر 2024 ووجهت له تهم خطيرة تتعلق بالتجسس، من بينها “التخابر مع قوة أجنبية” و”تسليم معلومات تمس بالمصالح الأساسية للأمة إلى قوة أجنبية”.
وتشير التحقيقات الأولية التي بدأت في يونيو 2024 بناءً على طلب من قسم الشؤون العسكرية والاعتداءات على أمن الدولة في النيابة العامة في باريس، إلى أن المتهم استغل منصبه لتزويد شخص يعمل في القنصلية الجزائرية في مدينة كريتيل بمنطقة فال دو مارن بمعلومات سرية وحساسة عن مواطنين جزائريين، خاصة المعارضين السياسيين لنظام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. وتشمل هذه المعلومات طلبات لجوء وتصاريح إقامة لعدد من الأشخاص من الجنسية الجزائرية المقيمين في فرنسا، بالإضافة إلى معلومات شخصية عن هوية ومكان إقامة بعض المعارضين الجزائريين البارزين.
شبكة التجسس وتورط موظفة بمكتب الهجرة
لم يعمل المتهم الرئيسي بمفرده، إذ كشفت التحقيقات عن تورط موظفة أخرى تعمل في المكتب الفرنسي للهجرة والاندماج (Ofii)، تبلغ من العمر 46 عاماً، كانت على علاقة مع المتهم الرئيسي، وقامت بتسريب معلومات سرية من خلال وظيفتها. وقد ساعدت هذه الموظفة في توفير معلومات تتعلق بـ”الوضع الشخصي أو الإداري” لمواطنين جزائريين يطلبون اللجوء أو تصاريح إقامة في فرنسا، مما يعكس حجم الاختراق الذي تمكنت الأجهزة الجزائرية من تحقيقه داخل مؤسسات الدولة الفرنسية.
ومن بين الملفات المطلوبة، وفق مصدر مقرب من التحقيق، معلومات عن جزائريين مطلوبين بموجب مذكرات اعتقال دولية بتهمة الإرهاب، بالإضافة إلى صحفي لاجئ وجزائري قدم شكوى في فرنسا ضد جنرال. كما أظهرت التحقيقات أن نشاط المتهم كان يستهدف المؤثرين الجزائريين الذين لهم متابعون بأعداد كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعكس استراتيجية ممنهجة لمراقبة والتضييق على المعارضين الجزائريين في المهجر.
موقف المتهم ودفاعه القانوني
يدفع محامي المتهم، الأستاذ سيبان أوهانيانز، بأن موكله كان “ضحية لحملة تهديدات وتلاعب من قبل قوة أجنبية ضيقت الخناق عليه”. وتشير بعض المصادر إلى أن نقل المعلومات تم تحت الإكراه، من خلال أساليب التخويف من جانب العميل الجزائري الذي كان يعمل في القنصلية الجزائرية في كريتاي منذ نهاية عام 2022، وقد استفاد من هذا “الغطاء” الدبلوماسي لممارسة أنشطة استخباراتية.
وتم وضع المتهم الرئيسي تحت المراقبة القضائية مع حظر الاتصال بالجهات الفاعلة الأخرى في القضية، في انتظار استكمال التحقيقات وإحالة الملف إلى المحكمة المختصة. وفتح تحقيق قضائي في 20 نوفمبر 2024 بتهم متعددة منها “التخابر مع قوة أجنبية”، و”تسليم قوة أجنبية معلومات حول المصالح الأساسية للأمة”، و”طرح وإفشاء أسرار الدفاع الوطني من قبل الوديع الخاص بها”، و”التحريض على جريمة خيانة أو تجسس دون متابعة” و”انتهاك السرية المهنية”.
سياق العلاقات المتوترة بين فرنسا والجزائر
تأتي هذه القضية في ظل علاقات متوترة بين فرنسا والجزائر تفاقمت منذ يوليو 2024، عندما أعلنت باريس دعمها لخطة مغربية للحكم الذاتي في الصحراء الغربية، المتنازع عليها بين المغرب والجزائر، مما أدى إلى سحب السفير الجزائري من باريس. وتزامنت القضية أيضاً مع اعتقال الكاتب الجزائري الذي يحمل الجنسية الفرنسية بوعلام صنصال في الجزائر، بسبب تصريحات أدلى بها لوسائل إعلام فرنسية تبنّى فيها موقف المغرب بشأن الصحراء الغربية، مما عمق الخلاف بين البلدين.
وفي تطور آخر يؤكد تعقيدات العلاقة بين البلدين، قررت السلطات الجزائرية رفع دعوى قضائية ضد لويس ساركوزي، نجل الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، على إثر تصريحاته التي هدد فيها بإحراق السفارة الجزائرية بباريس. وكان لويس ساركوزي قد صرح ليومية “لوموند” قائلاً: “لو كنت في الحكم وتم توقيف بوعلام صنصال لقمت بحرق السفارة الجزائرية وأوقفت منح التأشيرات وأرفع التعريفات الجمركية بـ 150 في المئة”.
التداعيات الأمنية والسياسية للقضية
اعتبر الإعلام الفرنسي أن اعتقال “الجاسوس الجزائري” يعكس مدى خطورة التهديد الذي تشكله عمليات التجسس والذي قد لا يقل عن “التهديد الإرهابي” وقد تكون عواقبه مدمرة على المصالح الوطنية. وأشارت بعض التحليلات إلى أن القضية، على الرغم من ندرتها بحكم ضعف الأجهزة الأمنية الجزائرية في تجنيد عملاء في الخارج، إلا أنها تلقي بثقلها في سياق التوترات الدبلوماسية القوية بين فرنسا والجزائر.
ومن المتوقع أن تؤدي هذه القضية إلى مزيد من التوتر في العلاقات الثنائية بين البلدين، خاصة وأنها تكشف عن نشاط استخباراتي جزائري داخل الأراضي الفرنسية، يستهدف الجالية الجزائرية عموماً والمعارضين على وجه الخصوص. كما قد تؤدي إلى تشديد الإجراءات الأمنية تجاه البعثات الدبلوماسية الجزائرية في فرنسا، ومراجعة سياسات التوظيف في القطاعات الحساسة للدولة الفرنسية، خاصة بالنسبة للموظفين مزدوجي الجنسية.
تداعيات القضية على الجالية الجزائرية في فرنسا
يثير هذا النوع من القضايا مخاوف جدية لدى الجالية الجزائرية في فرنسا، خاصة المعارضين منهم، الذين قد يشعرون بتهديد مستمر من قبل أجهزة المخابرات الجزائرية. وتبرز هذه القضية الاستهداف المنظم للمعارضين الجزائريين في المهجر، والمحاولات المستمرة لمراقبة أنشطتهم والحصول على معلومات عنهم بهدف الضغط عليهم أو ملاحقتهم.
وتعكس هذه التطورات تحدياً كبيراً يواجه السلطات الفرنسية في التوفيق بين الحفاظ على علاقات دبلوماسية وتجارية مع الجزائر، وبين حماية المواطنين والمقيمين على أراضيها من أي تدخلات أجنبية قد تهدد أمنهم وحرياتهم. ويطرح هذا التحدي أسئلة مهمة حول مدى فعالية آليات الرقابة الداخلية في المؤسسات الحكومية الفرنسية، ومدى قدرتها على كشف الاختراقات الأمنية قبل وقوعها.
اشتعال حرب الجواسيس
إن قضية توقيف مسؤول في وزارة الاقتصاد الفرنسية بتهمة التجسس لصالح الجزائر تفتح الباب أمام تساؤلات عديدة حول مستقبل العلاقات بين البلدين، وحول قدرة فرنسا على حماية أنظمتها ومؤسساتها من الاختراقات الخارجية. كما تضع هذه القضية الضوء على الصراعات السياسية والأمنية التي تتخطى الحدود الوطنية، وتؤثر على أمن واستقرار الجاليات المهاجرة في بلدان المهجر.
ومن المرجح أن تستمر التحقيقات في هذه القضية لفترة طويلة، مع احتمال ظهور معلومات جديدة قد تكشف عن أبعاد أخرى للتجسس الجزائري في فرنسا. كما قد تؤدي هذه القضية إلى مراجعة شاملة للسياسات الأمنية الفرنسية، وتعزيز آليات التدقيق في تعيين الموظفين في المناصب الحساسة، خاصة أولئك الذين لهم ارتباطات مع دول أجنبية. وفي المحصلة، تبقى هذه القضية مؤشراً على تعقيدات العلاقات الفرنسية-الجزائرية، وعلى التحديات المتزايدة التي تفرضها أنشطة التجسس على الأمن القومي والعلاقات الدولية في عالم متشابك ومعقد.