الولايات المتحدة تدرس التخلي عن قيادة حلف الناتو: تحول استراتيجي يثير مخاوف دولية
كشفت تقارير إعلامية أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تدرس حالياً التخلي عن منصب القائد الأعلى لقوات حلف الناتو في أوروبا، ضمن خطة شاملة لإعادة هيكلة القيادات القتالية الأمريكية. هذه الخطوة التي قد تضع حداً للإشراف الأمريكي المستمر منذ 75 عاماً على قيادة الحلف، تأتي ضمن سياسة ترامب بتخفيض النفقات العسكرية ودفع الحلفاء الأوروبيين لتحمل مسؤولية أكبر في مجال الدفاع، وسط تحذيرات من مسؤولين سابقين بأن هذه الخطوة قد تُهدد مستقبل الناتو وتُضعف نفوذ واشنطن في أوروبا.
تفاصيل الخطة الأمريكية للتخلي عن قيادة الناتو
نقلت شبكة (إن.بي.سي) الإخبارية الأمريكية عن مسؤولين عسكريين اثنين القول إن إدارة الرئيس دونالد ترامب تدرس التخلي عن قيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذلك في إطار عملية إعادة هيكلة واسعة النطاق للقيادات القتالية ومقرات القيادة العسكرية الأمريكية. وتتضمن الخطة المقترحة التخلي عن دور القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا، وهو المنصب الذي احتكرته الولايات المتحدة منذ تأسيس الحلف.
وذكرت الشبكة الإخبارية أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تجري عملية إعادة هيكلة واسعة النطاق للقيادات القتالية ومقرات القيادة العسكرية، وتشمل إحدى الخطط قيد الدراسة تخلي الولايات المتحدة عن دور القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا. وفي حال تنفيذ هذه الخطة، فسيتعين على دول الحلف الأخرى على الأرجح اختيار الدولة التي سترشح القائد الجديد.
وأفاد المسؤولان العسكريان المطلعان على الخطة بأنه من الممكن أيضا دمج خمس من أصل 11 قيادة عسكرية تابعة للجيش الأمريكي بموجب الخطة التي تخضع للدراسة، وذلك بهدف تقليص النفقات. ويشمل ذلك دراسة دمج القيادة الأمريكية في أوروبا مع القيادة الأمريكية في أفريقيا في قيادة واحدة مقرها شتوتجارت بألمانيا.
الدوافع وراء الخطة الأمريكية
تعود دوافع الإدارة الأمريكية لدراسة مثل هذه الخطة إلى عدة أسباب، على رأسها الرغبة في تخفيض النفقات العسكرية والإدارية. وقد أشارت شبكة (إن.بي.سي) إلى أن عملية إعادة الهيكلة المقترحة تأتي في الوقت الذي خفضت فيه إدارة ترامب الإنفاق وعدد الموظفين في الحكومة الاتحادية.
كما تعكس هذه الخطة رؤية ترامب ووزير الدفاع بيت هيغسيث اللذين صرحا سابقا بأن الإدارة الجديدة تريد من الشركاء الأوروبيين تحمل مسؤولية أكبر في الدفاع عن أوروبا. فمنذ توليه منصبه، دعا ترامب مراراً الدول الأعضاء في الناتو إلى زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، محذراً خلال الحملة الانتخابية من أنه سيشجع روسيا على فعل ما تريد لدول الناتو التي لا تفي بالتزامها بالإنفاق.
وتعتبر هذه الخطة أيضاً جزءاً من استراتيجية ترامب لتقليص حجم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ومواردها، فضلاً عن تقليل البيروقراطية العسكرية. وقد زار وزير الدفاع هيغسث مؤخراً المقر الرئيسي لأفريكوم في ألمانيا، في زيارة أكد البنتاغون أنها جزء من “جهود أوسع لتعزيز التعاون” مع القيادة الأوروبية (يوكوم).
التداعيات المحتملة للتخلي عن قيادة الناتو
وفقاً للشبكة الإخبارية الأمريكية، فإن تخلي الولايات المتحدة عن منصب القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا سيُمثل تحولا رمزيا كبيرا في ميزان القوى داخل التحالف الذي حدد معالم الأمن والسلام في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. فهذا المنصب له أهمية استراتيجية كبيرة، حيث يشرف الجنرال الذي يشغله حالياً، والذي يشغل أيضا منصب قائد القيادة الأمريكية في أوروبا، على دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا.
ويرى القائد السابق لحلف شمال الأطلسي (ناتو) جيمس ستافريديس أن الحلف قد يكون على وشك نهايته لتردد أمريكا في التزامها تجاه التحالف عبر الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة. وقد حذر ستافريديس، الذي شغل منصب قائد الناتو في أوروبا من 2009 إلى 2013، من أن الدعم الأمريكي المتذبذب للدفاع قد يفتح الباب لظهور منظمة جديدة يُطلق عليها اسم “منظمة المعاهدة الأوروبية -إيتو”، بدلاً من “منظمة معاهدة شمال الأطلسي -ناتو”.
تأثير التخلي عن القيادة على الشركاء الأوروبيين
في حال تخلي الولايات المتحدة عن منصب القائد الأعلى للناتو، سيتعين على الشركاء الأوروبيين تحمل المزيد من المسؤولية في الدفاع عن أنفسهم. وقد قال ستافريديس إن موسكو ستبتهج كثيرا بهذا التطور الذي وصفه بأنه إنذار أحمر لأعضاء حلف شمال الأطلسي الأوروبيين.
وأضاف ستافريديس أن ترمب أوضح أنه لا يريد المساهمة في مساعدة أوكرانيا، ووصف ذلك بأنه خطأ جيوسياسي كبير، مشيراً إلى أن الأضواء مسلطة حالياً على أوروبا لتسير وحدها قُدماً والاضطلاع بمسؤوليتها في القضية الأوكرانية. ونصح القائد السابق للحلف الدول الأوروبية قائلاً: “إذا كنت أوروبياً، فسأكون في هذه المرحلة بحاجة إلى إنفاق دفاعي أكبر، وشركات دفاعية أوروبية وبناء قوات مسلحة أوروبية وهيكل قيادة خارج الناتو”.
استراتيجية إعادة هيكلة القيادات العسكرية الأمريكية
تتزامن خطة التخلي عن قيادة الناتو مع دراسة أوسع لإعادة هيكلة القيادات العسكرية الأمريكية حول العالم. فبالإضافة إلى التخلي المحتمل عن منصب القائد الأعلى للناتو، تدرس إدارة ترامب تقليص حجم القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) وتحويلها إلى القيادة الأوروبية (يوكوم).
وتعتبر (أفريكوم) الهيئة العسكرية التي تشرف على العمليات العسكرية الأمريكية في أفريقيا، بما في ذلك مكافحة النزاعات الإقليمية والحفاظ على العلاقات العسكرية مع 53 دولة أفريقية. وقد أفادت مصادر داخل البنتاغون أن بعض المسؤولين العسكريين الأمريكيين يدعمون هذا التحرك كجزء من جهود إعادة هيكلة وتوفير المزيد من الموارد في مناطق أخرى.
ومع ذلك، يعارض آخرون الفكرة، مؤكدين أن تقليص تأثير (أفريكوم) قد يخلق فراغًا في المنطقة يسمح للدول الأخرى مثل روسيا والصين بزيادة نفوذها في القارة، خاصة في ظل التحديات الأمنية المتزايدة، مثل الإرهاب والتهديدات البحرية.
الجدل حول مستقبل حلف الناتو
تثير الخطة الأمريكية للتخلي عن قيادة الناتو جدلاً واسعاً حول مستقبل الحلف نفسه. وقد قال ستافريديس لشبكة سي إن إن: “قد نشهد الأيام الأخيرة لحلف الناتو، هذه قضية مثيرة للخلاف والجدل”. واعتبر أن “هذا الخلاف والجدل يدقان إسفيناً عميقاً في قلب الحلف، الذي سينزف إلى ما وراء أوكرانيا، ويرتبط بما إذا كان يمكن الوثوق بالولايات المتحدة كشريك”.
وقد تزايدت التكهنات في الفترة الأخيرة عمّا إذا كان ترمب يعتزم سحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي، بعد أن دعا مراراً الدول الأعضاء إلى زيادة الإنفاق الدفاعي، وصعد مطالبه الشهر الماضي، وشجع أعضاء الناتو على زيادة الإنفاق الدفاعي بشكل أكبر.
مستقبل الناتو
تعكس دراسة إدارة ترامب للتخلي عن قيادة حلف الناتو تغيراً جوهرياً في المقاربة الأمريكية للعلاقات عبر الأطلسية والأمن الأوروبي. ورغم أنه ليس من الواضح بعد كم من الوقت قد تستغرق عملية إعادة الهيكلة هذه، ومدى احتمالية تنفيذها بالكامل، إلا أن مجرد طرحها للدراسة يشير إلى تحول كبير في السياسة الأمريكية.
هذا التحول يضع دول الناتو الأوروبية أمام تحدٍ غير مسبوق يتمثل في ضرورة تعزيز قدراتها الدفاعية وتحمل مسؤولية أكبر في حماية أمنها. كما قد يؤدي إلى إعادة تشكيل هيكل الحلف نفسه وتوازن القوى داخله، وربما يفتح الباب أمام ظهور منظمات دفاعية جديدة في أوروبا.
ومع استمرار الحرب في أوكرانيا والتحديات الأمنية المتزايدة في مناطق مختلفة من العالم، يبقى السؤال الأهم: هل سيكون التخلي الأمريكي عن قيادة الناتو بداية لانسحاب أوسع من التحالف، أم مجرد إعادة توزيع للأدوار مع الحفاظ على الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل الناتو، بل أيضاً شكل العلاقات الدولية والأمن العالمي لعقود قادمة.