المخابرات البريطانية تحذر: جواسيس من روسيا والصين يتسللون إلى قلب البرلمان
في خطوة نادرة تكشف حجم القلق داخل أجهزة الأمن البريطانية، أصدر جهاز المخابرات الداخلية “إم.آي 5” تحذيراً علنياً مباشراً لأعضاء البرلمان والدوائر السياسية في لندن من محاولات تجسس منظمة تستهدفهم من قبل عملاء مرتبطين بروسيا والصين وإيران، بهدف التأثير على القرار السياسي وتقويض الديمقراطية البريطانية من الداخل.
التحذير الذي صدر يوم الاثنين، جاء بعد أسبوع واحد فقط من فشل الادعاء العام في المضي بمحاكمة بريطانيين متهمين بالتجسس لصالح الصين، بحجة عدم توافر أدلة كافية على أن بكين تمثل “تهديداً مباشراً للأمن القومي”، وهو ما أثار جدلاً واسعاً حول حدود النفوذ الصيني داخل المؤسسات البريطانية.
وقال كين مكالوم، المدير العام لجهاز إم.آي 5، في بيان حاد اللهجة:
“عندما تسرق الدول الأجنبية معلومات حيوية من بريطانيا أو تتلاعب بعملياتنا الديمقراطية، فإنها لا تضر بأمننا على المدى القصير فحسب، بل تقوض أسس سيادتنا”.
وطالب مكالوم السياسيين بالحذر من محاولات التجنيد غير المباشرة، مثل الهدايا، والتبرعات السياسية، واللقاءات المتكررة، مشيراً إلى أن بعض الجهات الأجنبية تسعى إلى “نسج علاقات طويلة الأمد مع البرلمانيين لتوظيفها لاحقاً في تمرير أجندات سياسية واقتصادية”.
تحذيرات من التلاعب بالمسارات الديمقراطية
ووفقاً للبيان، نصح جهاز المخابرات النواب بتتبع أي “تفاعلات اجتماعية غريبة” أو طلبات مريبة لعقد اجتماعات خاصة، محذراً من “التملق العلني” الذي قد يخفي وراءه محاولات لاستدراج معلومات أو مواقف سياسية.
ويأتي هذا التحرك في وقت تسعى فيه حكومة رئيس الوزراء كير ستارمر إلى تحسين العلاقات مع الصين، بعد أعوام من التوتر والاتهامات المتبادلة بالتجسس. ومع ذلك، يرى مراقبون أن التحذير الجديد من إم.آي 5 يمثل تأكيداً على استمرار حالة انعدام الثقة بين لندن وبكين، حتى وسط الخطاب الدبلوماسي الهادئ الذي يحاول ستارمر ترسيخه.
خلفية سياسية وأمنية
ليست هذه المرة الأولى التي يوجه فيها جهاز إم.آي 5 أصابع الاتهام إلى الصين. ففي عام 2022، أصدر الجهاز تحذيراً ضد المحامية كريستين لي، متَّهماً إياها بالعمل نيابة عن الحزب الشيوعي الصيني لتقديم تبرعات سياسية في بريطانيا. ورغم محاولتها مقاضاة الجهاز لتبرئة نفسها، خسرت القضية لاحقاً.
وتعليقاً على القضية الأخيرة التي أُسقطت ضد البريطانيين المتهمين بالتجسس، نفت السفارة الصينية في لندن الاتهامات ووصفتها بأنها “ادعاءات باطلة ومغرضة”، مؤكدة أن بكين “لم ولن تتدخل في الشؤون الداخلية البريطانية”.
مراقبون: الخطر يتجاوز الأفراد إلى البنية السياسية نفسها
ويرى محللون أمنيون أن التحذير العلني من إم.آي 5 يعكس تطوراً في أساليب التجسس الحديثة، حيث لم تعد تعتمد على سرقة الوثائق أو الاختراقات الرقمية فقط، بل على اختراق النسيج السياسي والإعلامي البريطاني عبر النفوذ الناعم والتمويل الخفي.
ويحذر خبراء من أن الديمقراطية البريطانية أصبحت هدفاً مباشراً لحروب التأثير السيبراني التي تقودها دول كبرى، معتبرين أن “الخطر الحقيقي لا يكمن في التجسس بحد ذاته، بل في قدرة تلك الدول على إعادة توجيه القرار السياسي البريطاني بما يخدم مصالحها”.
انعكاسات سياسية وأمنية تتجاوز حدود لندن
يرى مراقبون أن هذا التحذير العلني من جهاز إم.آي 5 ليس مجرد إجراء أمني روتيني، بل إشارة استراتيجية إلى تصاعد التوتر الاستخباراتي بين بريطانيا من جهة وكلٍّ من الصين وروسيا من جهة أخرى، في سياق حرب باردة جديدة تتخذ من النفوذ السياسي والتكنولوجي سلاحاً رئيسياً بدلاً من الجيوش.
فبالنسبة إلى الصين، يأتي التحذير في لحظة دقيقة، إذ تحاول حكومة كير ستارمر إعادة صياغة العلاقة الاقتصادية مع بكين دون المساس بمصالح الأمن القومي البريطاني. لكن تحذيرات إم.آي 5 تضع الحكومة في موقف حرج، فهي مطالبة بالموازنة بين الواقعية الاقتصادية والصلابة الأمنية، في ظل اعتماد قطاعات بريطانية على الاستثمارات الصينية، لا سيما في التكنولوجيا والطاقة.
أما بالنسبة إلى روسيا، فيعتبر مراقبون أن النشاط الاستخباراتي الروسي داخل أوروبا عاد بقوة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، مع سعي موسكو إلى إعادة بناء شبكات نفوذها في الغرب عبر أدوات غير تقليدية تشمل الإعلام، وتمويل جماعات الضغط، والتأثير في الرأي العام.
ويرى محللون أن التحذير البريطاني قد يكون مقدمة لموقف أوروبي موحّد ضد “اختراقات التجسس السياسي” التي باتت تهدد مؤسسات الحكم في القارة العجوز، خصوصاً بعد سلسلة تسريبات أمنية أثبتت أن الاختراق لا يقتصر على المعلومات السرية بل يمتد إلى تشكيل الرأي والتصويت داخل البرلمانات.









