خرج الرئيس الأمريكي ترامب في مقطع فيديو يمدح في ملك الاردن، ويبدو أن مساعدي ترامب نبهوه إلى أنه تسبب في أزمة كبيرة للملك عبد الله، بعد الإحراج الذي واجهه به أمام الصحفيين وعلى الهواء مباشرة، ترامب اضطر لنشر تغريدة في حسابه بتويتر (x)، موجهة للشعب الأردني، يقول لهم أنتم لديكم أحد القادة العظماء، ومنشن فيها الملك نفسه !!
ويرى الفيلسوف السياسي نيقولا مكيافيلّي (1469-1527) أن “التظاهر بالجنون قد يكون في بعض الأحيان أمرًا حكيمًا جدًا”، واستخدم مكيافيلي هذا المفهوم في كتابه نقاشات حول ليفي، وفيه يشير إلى أن القادة بإمكانهم استغلال منهج التظاهر بالجنون أو السلوك غير المتوقع، لإرباك الخصوم وتحقيق مكاسب استراتيجية.
يقول المراقبون :”هناك من أقنع ترامب بإغلاق فمه، واكتفائه بما صدر عنه من هلاوس وتخبيص بشأن امتلاك غزة، وتهجير أهلها، في حضور الملك عبد الله، والغاء لقاء مرتقب بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي “!
وقال ملك الأردن عبد الله الثاني بن الحسين خلال اللقاء الذي جمعه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض إن بلاده ترفض تهجير الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية وإن مصر تعمل على خطة بشأن قطاع غزة.
من جانبه جدد الرئيس ترامب تصريحاته حول تهجير سكان القطاع والاستيلاء عليه وإعماره قائلاً إن الفلسطينين سيعيشون بأمان في مكان آخر غير غزة.
وبدا الملك عبد الله خلال اللقاء مع الصحفيين غير مرتاح وارتسمت على وجهه علامات دلت على الضيق أو أنه بات في موقف محرج كما رآها كثير من محللوا لغة الجسد.
في كتابه حرب العشرة آلاف يوم ينقل الصحفي الكندي مايكل ماكلير عن أحد مساعدي نيكسون في البيت الأبيض، قوله إن مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر كان يمارس تطبيقًا عمليًا لـ”النظرية” أثناء مفاوضاته مع الفيتناميين في باريس. فكلما تعقدت الأمور، كان يهدد بأنه لا يضمن رد فعل “الرجل المجنون الذي يجلس في البيت الأبيض” ويمكنه استئناف قصف فيتنام في أي لحظة وأن يسويها بالأرض.
الإعلامية المصرية لميس الحديدي قالت إن ترامب قرر نصب السيرك وإحراج الملك بإطلاق تصريحاته العبثية أثناء جلوسه، مشيرة إلى أنه مستعد دائما لإحراج الجميع، داعية إلى أن تكون أي مقابلة معه جماعية برأي واحد.
من جهتها قالت د. وفاء إبراهيم العميد الأسبق لكلية البنات جامعة عين شمس إن الملك عبدالله ذهب للقاء ترامب بأخلاق الملوك العربية، ولم يكن ترامب على مستوى أخلاقى لا فى لغة الجسد أو خشونة الحديث.
وكما هو متوقع، خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فاجأ الرئيس الأمريكي الجميع بمواقف متهورةٍ وغير متزنة ومنافيةٍ للمنطق، تتماشى مع ما يُعرف بـ”استراتيجية الرجل المجنون” التي اتبعها في فترته الرئاسية الأولى.
لكن هذه المرة، بات الكثيرون مقتنعين بأن الرجل لا يتصرف وفق هذه الاستراتيجية، بل إنها جزءٌ لا يتجزأ من سلوكه الطبيعي.
أحد أبرز تلك المؤشرات والذي رسَّخ هذا الاعتقاد لدى الكثيرين، هو تصريحاته المتهوِّرة بشأن قطاع غزة، ونِيَّته “نقل سكانها” إلى دول الجوار، والاستيلاء على الأرض وبناء منتجع سياحي كبير يشبه الريفييرا الفرنسية على السواحل الشرقية للبحر المتوسط.
صدم هذا الموقف حتى أشد المؤيدين لعملية التطهير العرقي في قطاع غزة، ليس فقط لأنه يتماشى مع هذه المقترحات (الإسرائيلية) الإجرامية التي تنتهك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وتُصنَّف كجرائم ضد الإنسانية من قبل المحاكم الدولية.
ولكن أيضا لأن تنفيذ مثل هذه المزاعم يتطلب أدواتٍ وإجراءات عملية غير متوفرة على الأرض، فلا شك أن النزوح القسري لأكثر من مليوني شخص ليس أمرا هينا، خاصة مع فشل الجهود الإسرائيلية في تحقيق النزوح عبر كل أشكال العنف.
فكيف يعتزم ترامب تنفيذ هذه الأفعال المجنونة دون وجود قوات كافية على الأرض، ودون امتلاك قدرة تدميرية تفوق تلك التي تمتلكها إسرائيل؟
لقد نشرت إسرائيل ما يقارب 300 ألف جندي، ويُعتقد أنها فقدت نحو 2000 مركبة عسكرية في غزة (ولم تفلح)، فكيف لترامب أن يحقق هذا الهدف في غياب القوات العسكرية، إلا إذا كان ينوي ارتكاب جريمة أخرى ضد الإنسانية؛ كتجويع السكان حتى الموت؟
ورغم أن مثل هذه الفكرة ليست بعيدة عن عقلية من هذا النوع، فقد رأينا رفضا مباشرا وصريحا من الدول التي ذكرها كوجهات للنزوح، وعلى رأسها مصر والأردن.
علاوة على ذلك، عندما قدَّم ترامب توضيحاتٍ بشأن إعادة إعمار غزة وتحويلها إلى ريفييرا أخرى، ادَّعى أن الدول العربية -التي تمتلك ثرواتٍ ضخمة- هي من سيموِّل المشروع.
يعكس هذا الموقف غطرسة واستخفافا غير مسبوقين؛ فهو لا يسعى فقط إلى قذف الشعب الفلسطيني نحو الدول العربية وتهديد أمنها القومي، بل يتوقع من العرب، وخاصة السعودية، تمويل خطة تُضعف أمنهم والتي قد تُشعل جولة جديدة من الصراعات أكثر عنفا (في الإقليم).
وهذا ما يفسر الرد السعودي والعربي القوي الذي رفض هذه المبادرة جملة وتفصيلا، فقد ربط المسؤولون السعوديون، وخاصة ولي العهد محمد بن سلمان، أي علاقات دبلوماسية محتملة مع إسرائيل بقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وفقا للمبادرة العربية للسلام التي كانت في الأصل مبادرة سعودية.
لم يكن رد نتنياهو على الشرط السعودي أقل وقاحة من موقف ترامب؛ حيث اقترح أن تُنشئ السعودية دولة فلسطينية على أراضيها، في استمرار للغطرسة والاستعلاء الذي أظهره ترامب من قبل.
لا تمثل هذه المواقف عائقا أمام التطبيع السعودي الإسرائيلي فحسب، بل قد تُلحق ضربة قوية بالعلاقات السعودية الأمريكية، التي كان يُتوقع أن تزدهر تحت رئاسة ترامب، خاصة مع مطالباته -أو بالأحرى أوامره- للسعودية بتقديم تريليون دولار.
سواء أدرك ترامب ذلك أم لا، فإن موقفه يمثل تفكيكا كاملا لعقيدة سياسته الخارجية، التي زعم أنها تقوم على إنهاء الحروب وممارسة الضغوط الناعمة.
في الواقع، قد يمثل هذا بداية سلسلة أحداث كبرى، تجعل حرب السابع من تشرين الأول/ أكتوبر تبدو كنزهةٍ بسيطةٍ بجانبها.
وبعد اصطدامه مع الجميع تقريبا، أصبح ترامب أشبه بـ”فيل في متجر زجاج”، مما يجعل من الضروري للدول العربية إعادة التفكير في سياساتها، ليس تجاه إسرائيل فحسب، بل أيضا تجاه داعميها الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة، إذا أرادت الحفاظ على وجودها.
من البديهي أن السياسات الإسرائيلية المتعاقبة تسببت في معاناة هائلة للمنطقة: تشريد شعب كامل عن وطنه، واحتلال أراضٍ عربية تشمل مقدسات إسلامية ومسيحية، وإنكار حقوق شعب عريق يمتد تاريخه آلاف السنين.
هذه السياسات تواصل توليد المزيد من المعاناة والمآسي، مستندة إلى أيديولوجيا عنصرية لا تعترف بالمساواة البشرية، بل تطبق معيارا أخلاقيا على الضعفاء، بينما تسمح للأقوياء بفرض قواعدهم كما يحلو لهم.
إنّ الهجمات الإسرائيلية على سوريا بعد انهيار نظام بشار الأسد وتدمير قدراته العسكرية كانت جرائم لا يمكن تخيلها، كلَّفت ربما مليارات الدولارات، تحت ذريعة “الضربات الوقائية”.
وقد منحت إسرائيل نفسها الآن الحق في محاسبة الآخرين على النوايا، كما في الملف النووي الإيراني، مُتجاهلة كل منطقٍ أو عقلانية طالما تتمتع بحماية المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، التي ظلت صامتة تجاه هذه الجرائم.
مرارا وتكرارا، أثبتت الأحداث ما أكدناه دائما: إن وقف التعاون مع إسرائيل، التي تعتبر نفسها فوق القانون، أمرٌ لا مفر منه. فسياسة التواطؤ معها تجر العالم بأسره إلى دوامة عنف لا نهاية لها، قد تهدد السلام العالمي، وليس الاستقرار الإقليمي فحسب.
لطالما مثّلت القضية الفلسطينية مرآة يرى العالم فيها نفسه، لكنه اختار على الدوام أن يصرف نظره باتجاه مصالحه، وفي تحليل نشرته مجلة فورين بوليسي، الشهر الماضي، استعرض دانيال دبليو دريزنر أبحاثًا حديثةً حول نجاعة نظرية “الرجل المجنون” في حالة ترامب.
كان أحدها ذلك الذي خلصت فيه روزان ماكمينوس، أستاذة العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا، إلى أن بإمكان هذه الاستراتيجية أن تتحقق في إطار مجموعة محدودة من الظروف. وفي ورقة متابعة، استنتجت مكمانوس أنَّ نهج الرجل المجنون “قد يكون مفيدًا في التفاوض على الأزمات عندما تكون صفة الجنون ضئيلة”.